لشيخ مصطفى عبد السلام التريكي الفيتوري… العالم الجليل والرجل الفذ في عمله وسيرته ومبادئه التي عاش عليها وأخلص لها، التريكي عالم جليل تربع على قلوب الليبيين وكان مرجعية شعبية وفكرية من الطراز الرفيع في أوساطهم، ومحل ثقة للناس في دينهم وفتاويهم وشؤون حياتهم. وكان صاحب أسلوب قل نظيره في الدعوة وإيصال المعلومة والفكر الصحيح لجميع الناس. كما أن الشيخ معروف بمواقفه الشجاعة ضد القوانين الجائرة مثل قانون “البيت لساكنيه”، وهو الذي أفتى بعدم جواز الصلاة في البيوت المغتصبة، وقد كانت ردة فعل النظام (السابق) ضده غير إنسانية، وقد رأيته آخر مرة قبل وفاته في مسجد “الناقة” في طرابلس في درس علمي (قبل صلاة الجمعة) وهو صاحب تجربة في التدريس بالمسجد لمدة 55 عاماً، ورأيت في ملامحه سكينة ووقار كبيرين، ويشع نور الإيمان من محياه … رحمه الله وحفظ سيرته ذخراً لأبناء ليبيا والأمة الإسلامية كلها.
ولد الشيخ مصطفى عبد السلام التريكي في مدينة مصراته عام 1929م، ودرس في زواياها، وحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ علي بن أحمد بن حسن المنتصر بزاوية البي بمدينة مصراته برواية قالون عن نافع وذلك في عام 1946، وفي زاوية سيدي أحمد زروق بمدينة مصراته تلقى علوم النحو والصرف والبلاغة والفقه والفرائض وغيرها من العلوم الشرعية حتى عام 1948.
بعد ذلك انتقل الشيخ مصطفى إلى زاوية الشيخ عبد السلام الأسمر الفيتوري في زلتين عام 1948، وتقلى فيها العلوم الشرعية على يد الشيخ منصور أبو زبيدة الفيتوري والشيخ أبو بكر حمير، ومنها تحصل على شهادة الأهلية وهي أعلى شهادة بالزاوية الأسمرية.، ومن ثم التحق الشيخ مصطفى التريكي بجامعة الأزهر الشريف عام 1951م، وأكمل في معهد البحوث الإسلامية (السنة الرابعة) بعد امتحان المعادلة، كما التحق بكلية الشريعة، وتحصل منها على الشهادة العالمية والتي تعتبر من أعلى الشهادات بالأزهر الشريف في ذلك الوقت.
ترأس الشيخ مصطفى التريكي وفداً للمؤتمر الإسلامي في باكستان عام 1967م، وكان هذا المؤتمر لاختيار المخطوطات الإسلامية. ومثل ليبيا في عام 1968 بالمغرب في ذكرى مرور 14 قرناً على نزول القرآن الكريم، وكان ضيفاً على الملك الحسن الثاني رحمه الله |
وتخصص الشيخ مصطفى التريكي في القضاء، وتلقى العلم في المجال القضائي على يد علماء أجلاء وعلى رأسهم: فضيلة الشيخ شلتوت في علم التفسير، والدكتور مصطفى الحفناوي في القانون الدولي العام. ومنها تحصل على الشهادة العلمية (الأستاذية) من كلية الشريعة وهي أعلى شهادة في الأزهر الشريف في ذلك الوقت، كما انضم إلى معهد الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية بالقاهرة، ودرس فيه علوم منها علم المقارنة بين الشريعة والقانون على يد مجموعة من العلماء العظام وكان على رأسهم: الدكتور عبد الرزاق السنهوري في مادة مقارنة علم القانون بالفقه الإسلامي، وفضيلة الشيخ محمد أبو زهرة في مادة الشريعة الإسلامية (وكيل كلية الحقوق في جامعة القاهرة سنة 1958)، كما انتخب الشيخ مصطفى التريكي رئيساً للنادي الثقافي لطلبة ليبيا في القاهرة عام 1954، وفي ذلك العام عمل على توحيد طلبة برقة وطرابلس والأزهريين والجامعيين في النادي.
عُين الشيخ مصطفى التريكي قاضياً من الدرجة الأولى بمدينة الخمس في 12 فبراير/شباط 1958، ولكنه استقال في 24 من نفس الشهر 1958 قبل أداء اليمين، وذلك عندما تم الجمع بين القضاء الشرعي والمدني. كما عُين مدرسا بمعهد أحمد باشا الديني بمدينة طرابلس حتى عام 1960 ورئيساً لبعثة الحجيج الليبية في عام 1960 واستمر في هذا الأمر حتى عام 1980. كما عين رئيساً لتحرير مجلة الهدي الإسلامي عام 1961 أستاذاً وعميداً لكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بالبيضاء من عام 1962 حتى عام 1972، وفي هذه الأثناء انتدب لمدة مديراً عاماً للجامعة الإسلامية بالبيضاء، وعين مدرساً بكلية التربية بجامعة الفاتح عام 1972 ودرس مادة الحضارة الإسلامية بجميع كليات جامعة الفاتح كما درس طلبة الدراسات العليا (الماجستير) في علم الفرائض وظل أستاذاً جامعياً بجامعة الفاتح حتى تقاعد في عام 1993.
وعُين الشيخ العلامة رئيساً لمجموعة من المشايخ الذين أوكل إليهم إعادة تأهيل ثلاثين شيخا بمعهد أحمد باشا الديني بمدينة طرابلس وذلك ابتداء من سنة 1972 حتى سنة 1976 بقرار ما كان يسمى بمجلس قيادة الثورة، لمدة أربعة سنوات وكان من ضمن المشايخ الذين تم تأهيلهم الشيخ أحمد قدور والشيخ سالم الماقولي والشيخ عبد القراضي، كانت حياة الشيخ مصطفى حافلة بالمهام والأعمال التي تخدم الدين الإسلامي وتسهم في نصرة الإسلام؛ فقد درس بالحرمين الشريفين (المسجد الحرام – المسجد النبوي الشريف) لمدة 20 عاماً في أيام الحج بعد حصوله على إذن بالتدريس من شيخ الحرمين الشريفين الشيخ عبد الله بن حميد. وألقى دروسا مسجلة بالإذاعتين المرئية والمسموعة في شؤون الحج وفقه العبادات. كما ترأس في عام 1965 وفد طلابي من جامعة البيضاء لزيارة جمهورية مصر العربية وفلسطين وكان ممثلا لليبيا في مؤتمر الرابطة الإسلامية بمكة المكرمة ضمن الوفد المكون من المفتي وشيخ الجامعة وشيخ الزوايا. وترأس الوفد المكلف بحضور المؤتمر الإسلامي بالقدس الشريف ومنها زار الأماكن المقدسة الخليل وبيت لحم وغيرها وألقى بها بعض الدروس والمحاضرات وكان هذا بعد عام النكبة.
كما ترأس الشيخ مصطفى التريكي وفداً للمؤتمر الإسلامي في باكستان عام 1967م، وكان هذا المؤتمر لاختيار المخطوطات الإسلامية. ومثل ليبيا في عام 1968 بالمغرب في ذكرى مرور 14 قرناً على نزول القرآن الكريم، وكان ضيفاً على الملك الحسن الثاني رحمه الله، وألقى الدروس الحسينية بشهر رمضان المبارك. وقد ألقى في عامي 1979 و1980 العديد من المحاضرات بالمركز الإسلامي في لوس أنجلس، وزار هيئة الأمم المتحدة ونيويورك وواشنطن، هذا ودرس المرحوم الشيخ مصطفى التريكي صحيح البخاري وعلم التوحيد والفقه والتفسير في مسجد بن نابي بمدينة طرابلس. كما درس لمدة طويلة بجامع الناقة بالمدينة القديمة بطرابلس الذي أسسه جوهر الصقلي في عهد الدولة الفاطمية، وألقى العديد من المحاضرات بمسجد أسامة بن زيد بمدينة طرابلس بشهر رمضان المبارك، وكان مشاركاً في المناسبات والاحتفالات الدينية والاجتماعية، وافتتاح المساجد في جميع أنحاء البلاد.
كان الشيخ إذا تحدث مع العلماء كان سمت العلماء ولغتهم يزينه ويرون محباً مشفقاً، ورأيت في هذا العجب لو قدر الله لي عمراً لسردت لكم منه نفائس ودرر |
يقول ابن الشيخ مصطفى عبد السلام التريكي: “ربما شهادتي فيه مجروحة، ولكن لا أظن هناك من يخالفني من المنصفين ممن أدركوه في أن الوالد الشيخ مصطفى التريكي رحمه الله تميز بأسلوب علمي ودعوي فريد ومحبب للناس وأهل العلم حتى سماه البعض “ظاهرة الشيخ مصطفى التريكي رحمه في الدعوة”، فقد تميز بأسلوب وصفه الكثيرون بأن الله سبحانه وتعالى قد حباه بقدرةٍ عجيبة على التعامل مع طبقات الناس المختلفة:
– إذا نصح لكبار السن حدثهم بأسلوب فريد بسيط يفهمونه، حتى كانت عجزائنا لا يقبلن غيره مع توفر علماء فضلاء إخوة له وأحبة وكل حباه الله بفضل وعلم.
– إذا تحدث مع الشباب نزل لسنهم وبساطة علمهم فأحسوا بقربهم منه وكأنه يفهم مشاكلهم ويعيشها معهم مع فارق العلم والسن.
– إذا تحدث مع العلماء كان سمت العلماء ولغتهم يزينه ويرون محباً مشفقاً، ورأيت في هذا العجب لو قدر الله لي عمراً لسردت لكم منه نفائس ودرر.
كما تظهر أخلاقه في المعاملات، حيث يقول ابن الشيخ مصطفى التريكي: “كان الوالد الشيخ مصطفى التريكي رحمه الله رجلاً عصامياً بجانب ما حباه الله به من علم ومنزلة. وكان مصدر الدخل الرئيسي له مزرعة صغيرة (سانية) يُربي فيها الماشية وبعض الطيور للتجارة وللمعيشة بعد أن حط الطاغوت القذافي من قدر العلماء وجعل مرتباتهم لا تكفي لسداد حاجياتهم الاساسية إذلالاً لهم ولينشغلوا بمعاشهم عوضاً عن تأدية رسالتهم العظيمة، كان الوالد رحمه الله يُربي عددا بسيطاً من الغنم، وعند المواسم يبيع بعضها، وقد تعامل مع عدد لا بأس به من التجار لعقود عديدة. ولقد رأيت له مواقف كثيرة تعكس خلقاً رفيعاً في التعامل مع الله ثم مع خلقه، وكانت ثمرة للعلم وصدق التوكل على الله عز وجل. ولعلي أذكر إحداها هنا، مالم أذكره من قبل:
(كان أحد التجار ممن تعامل معه لسنوات عديدة، شخص يظهر للوالد الود والحرص، فكان يأخذ الغنم الذي يرغب الوالد في بيعه للسوق مقابل مبلغ متفق عليه أو ما شابه– لا أذكر صيغة الاتفاق لطول الزمن-ثم بعد فترة يرجع التاجر للوالد ويبين ما باعه وما بقي. وبعد أن كبرنا وتعلمنا مع الوالد، أدركنا أن الرجل لم يكن صادقاً في معاملاته واستحيينا من الوالد ظنا منا أنه لم ينتبه! ويوماً ما ألمحت له بأن الرجل يخدعنا ويخبرنا مراراً بأنه خسر والسوق نازل أو أن البيع كان ليس في المستوى المطلوب! فقال لي الوالد كلمة يرددها كثيراً في مثل هذه المواقف: “يا بني دعه وما يفعل، فإن كان يغشنا فسيصيبه جزاء فعله من الله عز وجل”، ورفض أن يصارح الرجل ورضى بما قسم الله له، مع فطنة الوالد رحمه الله ونباهته.
ومرت سنوات، وجاء الرجل محمولاً للوالد مع ابنه، وقد أصيب بالشلل، وهو يبكي بكاء حاراً، وقد أفلس وضاعت تجارته وذهب ماله وصحته وابتلي في أولاده، وقال للوالد: سامحني يا شيخ مصطفى فقد خدعتك لسنوات طويلة، وكنت أبيع الغنم لنفسي وأخبرك إنني خسرت أو أن السوق نازل، وجنيت من وراءك أموالاً، وهكذا ترى حالي”، وقد كنت حاضراً الموقف، فغضبت جداً، وتوقعت أن يدعو عليه الوالد أو ما شابه، وقد خدعه في رزق عياله لسنوات طويلة… ولكن التفت للوالد فوجدته يبكي كأنه هو المصاب، ويتعانق مع الرجل ويُسامحه في كل شيء ويدعو له بالشفاء العاجل فهز كياني هذا الموقف، وقلت في نفسي: أيّ معدن من الرجال أنت يا والدي الحبيب؟”
المصدر الجزيرة
————————————————————————