تشكل عملية نقل مواطنين سوريين من الزبداني إلى تركيا عبر لبنان، وآخرين من قريتي كفريا والفوعا في ريف إدلب إلى دمشق عبر تركيا، واحداً من أكثر الأحداث قسوة خلال السنوات الأربع الأخيرة من عمر الثورة السورية.
وعلى الرغم من أن السوريين عاشوا مواقف أكثر هولاً وفداحة على يد نظام بشار الأسد وحلفائه من الإيرانيين والروس والمليشيات الأجنبية، إلا أن لحظات مبادلة سوريين بسوريين آخرين، تحت رعاية الأمم المتحدة، خلفت جرحا يتجاوز تعقيدات الخارطة الجغرافية الراهنة، ويحفر عميقاً في الأرض والوجدان واللحمة الوطنية. ومع أن التطورات الميدانية على مدى السنوات الأربع قسمت البلاد والعباد، وحالت دون اتصال السوريين ببعضهم بالطرق العادية، فإن عملية التبادل جاءت لتكسر حدود المحرمات التي عجزت عنها الحرب التدميرية.
شملت عملية التبادل نقل نحو 126 من الزبداني التي تعيش تحت حصار النظام وحزب الله، منذ عدة أشهر، إلى تركيا، ومنها إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في إدلب، وفق صفقة أبرمها الإيرانيون مع حركة أحرار الشام في 24 سبتمبر/ أيلول الماضي، بعد أربعة أشهر من القتال على مشارف المدينة، عجز خلالها حزب الله وقوات النظام السوري عن اقتحام الزبداني.
وقد حظيت الصفقة باهتمام كبير، نظراً لأنها جرت بوساطة إيرانية مباشرة، وربطها المتابعون بترتيباتٍ ميدانيةٍ تتعلق بإخلاء الزبداني من سكانها السّنة، ضمن توجه لتفريغ محيط دمشق كلياً، ونقل السكان إلى منطقة ادلب، وإحلال سكان كفريا والفوعا محلهم، ولا يقف الأمر عند حدود الفرز والتطهير الطائفي المحدود، بل هو ضمن المخطط الذي جرى الاصطلاح عليه بـ “سورية المفيدة” التي تشمل الساحل وحمص ودمشق، وحتى الحدود السورية اللبنانية.
لا يمكن، في كل الأحوال، رؤية مبادلة نحو 500 مواطن سوري في الاتجاهين إلا كبروفة للمخطط المذكور، أو ما يشبهه، لأن المسألة مدروسة، وستتم على مراحل، خطوة وراء خطوة خلال ستة أشهر، تعود السيادة، في نهايتها، على ريف دمشق، إلى قوات الأسد.
ومهما كانت المآلات، فإن الجانب الرمزي يلعب، هنا، دوراً في إعطاء العملية بعداً مختلفاً عن عمليات التبادل السابقة التي حصلت بين الأطراف المتحاربة على الأرض، ذلك أن جميع تلك الاتفاقات والتسويات تمت من خلال تفاهمات مباشرة، ولم تتطلب تدخلاً من الأمم المتحدة، ولا اللجوء إلى الانتقال من منطقة سورية إلى أخرى، عبر بلدين وسيطين، وإذا كان للرمز أن يحمل معاني لحظات التبادل، وهي ذات وطأة كبيرة، فإنه يكشف، على نحو لا يقبل اللبس، أن الإيرانيين يتحملون المسؤولية السياسية والأخلاقية عن تدمير آخر الأواصر بين السوريين. صحيح أن نظام الأسد أوصل العلاقات بين أبناء البلد الواحد إلى أسوأ حالاتها، لكن الإيرانيين جاءوا لكي يحوّلوا ذلك إلى حرب أهلية، ومن ثم البدء في خطوات تقسيم.
لم يعد هناك أي شك في أن الكلمة العليا في سورية باتت لإيران، ولم يعد بشار الأسد إلا واجهة رسمية لا أكثر، فالحاكم الفعلي لسورية اليوم هو قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الذي يتحرك على الجبهات كافة، وليس سراً أنه الذي أجاز للروس التدخل العسكري في سورية. ومن دون شك أيضاً، بات السوريون يدركون أن إيران مهتمة من الوضع السوري بمصالحها، وحتى الطائفة العلوية التي تتظاهر بحمايتها، فإنها تستخدمها ورقة في الصراع الطائفي الذي تذكي ناره في سورية والعراق ولبنان، لتبقى ممسكة بأوراق اللعبة.
الزبداني اليوم يريدها الإيرانيون أن تكون سورية الغد، وربما لن يفيق السوريون، قبل أن يعمم قاسم سليماني الفرز الطائفي على بقية المناطق السورية.
العربي الجديد