يشير انهيار الاتفاق الروسي الأميركي الذي أعلن عنه في جنيف، في التاسع من سبتمبر/ أيلول الجاري، إلى أن الروس، ومعهم النظام والإيرانيون، لا يؤمنون إلا بحلّ عسكري للصراع في سورية، وهذا ينسف مقولة يردّدها المسؤولون الروس، تفيد بأنهم لا يرون غير حلّ سياسي لهذا الصراع، وهو الأساس النظري الذي بنى عليه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تفاهمه مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، وأوعز لوزير الخارجية، جون كيري، لكي يخوض مفاوضات ماراثونية مع نظيره الروسي، سيرغي لافروف، استمرت أكثر من ثمانية أشهر، وتمخضت عن اتفاق “اللحظة الأخيرة”، يقضي بوقف إطلاق النار، أو هدنة لم تصمد حتى أياماً قليلة.
غير أن الأساس النظري الذي بني عليه الاتفاق لا يتصوره الروس خارج رؤيتهم لحل سياسي على طريقتهم، أي هو حلٌّ يفرض بالقوة العسكرية العمياء، من خلال قصف المدنيين وتدمير أماكن سكناهم ووجودهم من مشاف وملاجئ وأسواق ومدارس، وهو أمر بدأوا تنفيذه من اليوم الأول لتدخلهم العسكري المباشر إلى جانب النظام الأسدي والإيرانيين ومليشياتهم الطائفية، وليس ذلك الحل السياسي الذي فهمه الأميركيون، وافترضوا أن الروس راغبون في إيجاده، من خلال بذل جهودٍ كافية، للتوصل إلى تسويةٍ متفاوض عليها، تقضي بوقف إطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية والطبية إلى كل المناطق المحاصرة، ثم تنفيذ عملياتٍ عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وجبهة فتح الشام (النصرة سابقاً).
أراد الروس، من خلال الاتفاق مع الأميركيين، إعادة تعويم نظام الأسد، واسترجاع شرعيته المفقودة، بجعله شريكاً في الحرب ضد “الإرهابيين”. لذلك، لم يخجل لافروف من نفسه، حين طالب الولايات المتحدة بأن تعتبر الأسد، المتهم من الأمم المتحدة بارتكاب جرائم حرب ضد السوريين وجرائم ضد الإنسانية، الشريك الوحيد الممكن في الحرب ضد “الإرهاب”، مبرّراً ذلك بأن جيشه الذي لم يتبقّ منه سوى قوام عصابات، “القوة الوحيدة، والأكثر كفاءةً، في محاربة الإرهاب في سورية”.
غير أن لافروف يدرك تماماً أن الهدف من الاتفاق مع الأميركيين ليس الوصول إلى حل سياسي للمشكلة الرئيسية في الصراع، بل الوصول إلى تعاونٍ مشترك معهم عبر “مركز التنفيذ المشترك، لتنسيق الضربات ضد تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة فتح الشام”، وسيستغله الروس، من أجل ضرب جميع أطياف المعارضة السورية، والهدف الأبعد هو جعل روسيا شريكاً أساسياً في تحالف مع الولايات المتحدة، لكن ممانعة العسكريين الأميركيين في البنتاغون، وكذلك في الاستخبارات الأميركية، أظهرت عدم القبول بتحول روسيا من عدوٍّ إلى حليف، وأظهرت كذلك تصاعد الخلاف بين الإدارة الأميركية في البيت الأبيض ووزارة الدفاع (البنتاغون) على سياسة التراجع والتراخي الأميركي أمام سياسة الانخراط والاندفاع التي انخرط فيها النظام الروسي من أوكرانيا الى سورية.
الأدهى من ذلك كله أن الروس وحلفاءهم دفنوا الاتفاق مع الأميركيين، بهجومهم على قافلة المساعدات الإنسانية، وبدأوا هجوماً وحشياً على حلب، لكي يقضوا على ممكنات (وآمال) إنقاذ الاتفاق، ما يشير إلى أنهم لا يزالون عند اعتقادهم بإمكانية الحسم العسكري، فيما لا تزال إدارة أوباما مصرّة على القول إن المفاوضات هي الطريق الوحيد لخروج سورية من مأساتها.
والواقع أن مدينة حلب كانت، منذ بداية التدخل العسكري الروسي في سورية مطلع سبتمبر/ أيلول العام الماضي في الحرب إلى جانب النظام والإيرانيين ومليشياتهم ضد غالبية السوريين، الهدف الأول لهذا التدخل العدواني، وأضحت ميداناً للقتل والتدمير، وشاهدةً على الجريمة التي يرتكبها نظام الأسد وحلفاؤه، الروس والإيرانيون ومليشياتهم.
ويحاول الروس، ومعهم الإيرانيون ونظام الأسد، تسويق اعتقادٍ يفيد بأن من يسيطر على حلب سينتصر، وهي مقولةٌ متهافته، على الرغم من أهمية حلب الكبيرة، لأن حسم الحرب في سورية لن يكون في متناول الروس وحلفائهم، وحلب لا تقاس بعدد الكيلومترات المسيطر عليها، إنما بإرادة الناس الذين خرجوا في بداية الثورة بصدورهم العارية، مطالبين بالحرية والكرامة وإسقاط النظام المجرم.
ولعل ما كشف القناعة الروسية في المضي في الحل العسكري هي أعداد العسكريين الروس في سورية الذين صوتوا في الانتخابات الروسية، قبل أيام، حيث وصل عددهم إلى خمسة آلاف تقريباً، إلى جانب زجّ موسكو ثلاثة آلاف جندي جديد، إضافة إلى حاملة الطائرات الروسية الوحيدة، أميرال كوزنتسوف، ومقاتلات جديدة وصواريخ وأسلحة حديثة، لكي تجربها روسيا على سكان حلب من أطفال ونساء ورجال. ويشير ذلك كله، بوضوح، إلى مضي القيادة الروسية وإمعانها في الحرب الوحشية إلى جانب النظام والإيرانيين ومليشياتهم، وأنهم لا يؤمنون بالحل السياسي.
والمؤسف أننا لم نسمع من الطرف الأميركي سوى كلام، ذي نبرة عالية هذه المرّة، من الوزير جون كيري، ضد الممارسات الروسية في سورية، الأمر الذي لا يدلّ على إمكانية حدوث أي تغير في موقف الإدارة الأميركية، وعقب قول كيري إن سيرغي لافروف “يعيش في عالم موازٍ للعالم الذي نعيش فيه”، ردّ عليه بعضهم بالقول إن كيري هو الذي يعيش في عالم موازٍ، خصوصاً أن هجومه الكلامي جاء متأخراً، وليس مؤشراً على أي تغيير في السياسة الأميركية حيال الوضع الكارثي في سورية.
ويبدو أن الانتظار هو سيد الموقف، حيث إن إدارة أوباما لن تبدي أي تحرك عملي خلال المدة المتبقية لها، ولن تبدأ الإدارة الجديدة بالتحرك قبل مارس/ آذارالمقبل المقبل، وهي مدةٌ تصل إلى خمسة أشهر. ويعتقد بوتين أن انخراطه المتزايد في الحرب الوحشية ضد غالبية السوريين يمكنه حسم الوضع، لكنه واهمٌ، فالمسألة بالنسبة إلى السوريين إرادة شعبٍ لا يمكن كسرها، وليس طموحات وأوهام قيصر مغرور وغير متوّج.
العربي الجديد – عمر كوش