أنتجت الحرب الأهلية السورية زوال الدولة، الى حد بعيد، ذات السيادة على قراراتها وأراضيها. البلاد السورية مستباحة اليوم لأطراف متعددة: من التنظيمات الإرهابية، الى أطراف دولية وإقليمية. بعد خمس سنوات على الحرب، بات اللاعبان المقرران لمصير سورية ومستقبلها هما الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، أما سائر الأطراف من إيران الى ميليشياتها فليست سوى أدوات في خدمة الطرفين المقررين. لكن الثابت أيضاً أن الولايات المتحدة، شريكة روسيا في التخطيط والتقرير، أولت أمر التنفيذ المباشر الى روسيا، التي باتت تتصرف على قاعدة “الأمر لي”، على المستويات العسكرية، وفي التخطيط لطبيعة الحكم الانتقالي. تتصرف روسيا بفظاظة في تعاطيها مع الرئيس السوري ومع سائر الأطراف، ولا تجد حرجاً في استدعاء الرئيس الى موسكو أو الى قاعدتها العسكرية في منطقة اللاذقية لإبلاغه القرارات السورية ووجوب الانصياع اليها. لكن أفدح مظاهر الإذلال لسورية هو ما تسرب مؤخراً عن دستور لسورية المقبلة، وضعته روسيا بالاتفاق مع الولايات المتحدة، وسيعرض على مجلس الأمن للموافقة عليه. حاول الإعلام السوري الرسمي نفي وجود مسودة لهذا الدستور، لكن إعلام “حزب الله” أكد وجود المسودة وأضاف أن لديه نسخة منها، نشرها في صحفه. المؤكد اليوم أن هذه النسخة موجودة وباتت قيد التداول.
تتضمن مسودة الدستور، كما نشرت في وسائل الإعلام، كل التفاصيل التي تتضمنها المشاريع الدستورية لأي بلد، من سلطات الرئيس الى طبيعة السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والإدارية. لكن الدستور المختلف كثيراً عن الدستور الراهن يتضمن مجموعة توجهات تعبر عن الرؤية الروسية – الاميركية لمستقبل سورية. أول التوجهات تقوم على إلغاء كلمة “العربية” من الاسم المعتمد حالياً وهو “الجمهورية العربية السورية”. هذا الشطب يرمز الى القول أن سورية للعرب ولغير العرب، وأن كل أقلية من حقها ان تجد لنفسها هوية، سواء أرادت أن تكون عربية أم غير عربية.
التوجه الثاني يؤكد تقسيم سورية وإنهاء موقعها كدولة مركزية، يتجلى ذلك في تثبيت مواقع الأقليات، خصوصاً منها الأقلية الكردية، التي تسعى الولايات المتحدة منذ بدء الحرب الى تكوين كيان ذاتي لها، مستقل عن الدولة المركزية، وقد قطعت خطوات في هذا المجال. تفصح الجملة التالية الواردة في المسودة عن هذا التوجه حيث تقول: “تستخدم أجهزة الحكم الذاتي الثقافي الكردي ومنظماته اللغتين العربية والكردية كلغتين متساويتين”.
التوجه الثالث يقوم على إقامة سلطة في جميع المجالات عماده المحاصصة الطائفية والمذهبية والعرقية، على غرار ما بات واقعاً في العراق، واستلهاماً للنموذج اللبناني في المحاصصة والتفتيت. إن نموذج هذا الحكم يمنع الوحدة السورية من القيام، ويؤسس لنزاعات أهلية على المديين القريب والبعيد، خصوصاً ان هذا “التقسيم” لا يأتي في ظروف سلمية واستناداً الى استفتاءات شعبية كما يحصل عادة، بل جاء حصيلة حرب أهلية قسمت المجتمع السوري ومزقت نسيجه، وأسست لجبال من الكراهية والحقد والوعيد بالثأر والانتقام، مما لا يبشر بسورية هادئة في حال انتهت الحرب.
التوجه الرابع الأخطر هو ما يتصل بالقوات المسلحة الروسية ودورها المستقبلي. جاء في النص: “يحرّم تنظيم أعمال عسكرية، أو ذات طابع عسكري خارج مناطق سلطة الدولة، على أن ينحصر دور الجيش في الدفاع عن سلامة أرض الوطن وسيادتها الإقليمية فقط”. يفصح هذا النص عن أن لا مجال بعد الآن لإمكان انخراط الجيش السوري في قتال ضد العدو القومي اسرائيل. كان موضوع الجيش السوري وضربه وتقسيمه وشرذمته من المهمات المركزية للخطة الاميركية في سعيها لتدمير سورية وتقسيمها، لأن هذا التدمير وحده يؤمن شل فاعلية سورية في حال تغير النظام، وأتى بديل له يمكن أن يكون على طرف عداء لإسرائيل. وهذا التدمير أنجز بنسبة عالية جداً، بما يسمح لمثل هذا الطرح أن لا يصطدم بمعارضة فاعلة.
تلك بعض النماذج التي يقترحها الروس لمستقبل سورية. تجاهلت روسيا جميع الأطراف السورية، من رسمية ومعارضة، وهو موقف ينم عن حجم الاحتقار الذي تكنه السلطة الروسية للقيادة السورية قبل كل شيء. لا تقوم الملاحظات فقط على أن الدساتير لا تملى من الخارج على غرار ما كانت تفعله دول الانتداب والاستعمار، بل تأتي الدساتير حصيلة نقاش واسع بين مكونات المجتمع، بما يسمح بولادة تشريعات وقوانين تراعي مصالح المجموعات التي يتكون منها البلد. لكن المآل الذي وصلت اليه الحال السوري جعل من الخارج وصياً، فألغى أي دور للنظام وللمعارضة معاً، وهو تعبير عن حجم المأساة التي يعانيها الشعب السوري، والتي أضيفت الى معاناته عبر التدمير والقتل والتهجير.
الحياة