في آب (أغسطس) 2008 قالت هيلاري كلينتون، التي كانت قد هزمت للتو أمام باراك أوباما كمرشحة عن الحزب الديموقراطي لانتخابات الرئاسة الأميركية، الكلمات التالية عن فلاديمير بوتين في حربه مع جورجيا: «هناك هتلر جديد يولد». استقالت كلينتون مع بدء الولاية الثانية لأوباما في كانون الثاني (يناير) 2013 من منصب وزيرة الخارجية بسبب خلافها مع الرئيس حول السياسة المتبعة تجاه موسكو وطهران في سورية.
من الممكن تشبيه كلينتون بتشرشل لمّا اعترض على تنازلات رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشمبرلين لهتلر في مؤتمر ميونيخ عام 1938 في رفض منطق تنازل الأقوى للأضعف. من خلال ما سرب عن رأي وزارة الدفاع الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية في اتفاق جون كيري وسيرغي لافروف في جنيف حول سورية يوم 9 أيلول (سبتمبر) الماضي، هناك رأي مشابه لرأي هيلاري كلينتون وعلى الأرجح أن العسكريين الأميركيين من خلال «الغارة الخطأ» في دير الزور قد قاموا باغتيال متعمد لاتفاق وزير خارجيتهم مع موسكو.
وفق التداعيات الأخيرة لموت اتفاق 9 أيلول هناك مؤشرات إلى أن مسار مؤتمر جنيف – 3 قد مات في حلب، هو وكل ما نتج من التوافق الأميركي- الروسي منذ لقاءي فيينا (تشرين الأول – اكتوبر، تشرين الثاني – نوفمبر2015) ونتائجهما بما فيه مؤتمر الرياض والقرار 2254، مثلما مات مؤتمر جنيف – 2 حول سورية في كييف في شباط (فبراير) 2014 ليموت معه التوافق الأميركي- الروسي حول سورية الذي كان قد بدأ في لقاء موسكو بين كيري ولافروف في 7 أيار (مايو) 2013، بكل محطاته ومنها اتفاق الكيماوي السوري والقرار الدولي 2118 في أيلول 2013.
منذ صعود فلاديمير بوتين في ليلة رأس سنة 2000 إلى قصر الكرملين وهناك مشروع عنده بإعادة القوة الروسية إلى وضعها الذي كانته في زمن خروتشوف وبريجنيف وتجاوز هزيمة 1989 للكرملين أمام البيت الأبيض في الحرب الباردة. لم يستطع ذلك في زمن بوش الابن (2001-2009)، واضطر للانحناء أمام القوة الأميركية في أفغانستان والعراق وفي مجلس الأمن عند فرض العقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي، وكان من الدلالة أن يطلق زعيم الكرملين إشارة الاستيقاظ الروسي في جورجيا (الجمهورية السوفياتية السابقة) عند مغيب عهد بوش الابن وقرب رحيله عن البيت الأبيض وبعيد وضوح فشل المشروع الأميركي في العراق وقبل شهر من انفجار الأزمة المالية – الاقتصادية الأميركية (ثم العالمية) من نيويورك في أيلول 2008. في حزيران (يونيو) 2009، قام بوتين مع الصين والبرازيل والهند (انضمت جمهورية جنوب أفريقيا عام 2010) بتأسيس دول مجموعة «البريكس» مع هدف مركزي هو: إقامة عالم متعدد الأقطاب، في أول تحد للقطبية الأحادية الأميركية التي بدأت في عالم ما بعد عام 1989. لم يطلق بوتين قفاز التحدي في ليبيا عند تبني مجلس الأمن الدولي في 18 آذار (مارس) 2011 القرار رقم 1973 الذي يقضي بفرض حظر جوي على ليبيا مما شرع عملية حلف الأطلسي ضد القذافي، بل عند استخدام الفيتو الروسي- الصيني المزدوج في نيويورك في شأن الأزمة السورية في 4 تشرين الأول 2011.
منذ ذلك التاريخ، وخلال خمسة أعوام مضت من الكباش الأميركي – الروسي في سورية، اتضح أن موسكو نجحت في فرض ثنائية دولية في الأزمة السورية ومنعت واشنطن من فرض الأحادية القطبية التي مارستها في أزمة الخليج بين 1990-1991 وفي كوسوفو 1999 وفي أفغانستان 2001 والعراق عام 2003 والملف النووي الإيراني (2006-2010) وفي ليبيا 2011. أقرت واشنطن بهذه الثنائية في بيان جنيف -1 (30 حزيران 2012) وفي اتفاق موسكو (7 أيار 2013) وفي اتفاق الكيماوي السوري (14 أيلول 2013) وفي مؤتمر جنيف – 2 (كانون الثاني – شباط 2014) عندما كانت كلمة لافروف قبل كلمة كيري بالجلسة الافتتاحية وبعد كلمة بان كي مون، وفي لقاءي فيينا (2015) وفي مؤتمر جنيف- 3 (افتتح يوم 29 كانون الثاني 2016)، وفي اتفاق كيري- لافروف حول «جبهة النصرة» في موسكو في 15 تموز 2016 وفي اتفاق جنيف أيضاً بينهما يوم 9 أيلول 2016. كانت نظرة أوباما لهذه الثنائية هي من أجل كسر «البريكس» عبر إبعاد موسكو عن بكين من خلال الجزرة السورية، تماماً مثلما يفعل مع التقارب الأميركي – الهندي لتعميق الخلاف بين نيودلهي وبكين البادئ منذ حرب 1962 الحدودية والتي لم تنجح «البريكس» في شفاء آثارها، فيما ينظر بوتين إلى الأزمة السورية كفرصة لروسيا من أجل العودة إلى الثنائية القطبية أو على الأقل من أجل كسر الأحادية القطبية للعالم عند واشنطن.
في البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية وعند هيلاري كلينتون هناك قراءة أخرى غير التي عند أوباما: روسيا هي الرقم عشرة في الاقتصاد العالمي (وفق لائحة الأمم المتحدة عام 2014) وراء البرازيل وايطاليا والهند ولا يجوز معاملتها كدولة عظمى أو كبرى حيث لم تكن هناك دولة كبرى في التاريخ العالمي إلا وكان اقتصادها ضمن الاقتصادات الخمسة الأقوى عالمياً والعظمى ضمن الثلاثة الكبيرة. يتفق معهم أوباما بأن الصين، الرقم الثاني بعد الولايات المتحدة في القوة الاقتصادية، هي الخطر الأكبر على القطبية الأحادية الأميركية، ولكن يختلف معهم حول السياسة تجاه روسيا، حيث يرون هم بأن سياسته الإرضائية لروسيا يمكن أن تجعل بوتين في وضعية هتلر في مؤتمر ميونيخ عام 1938 تجاه رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلين. التنازلات من القوي للضعيف تعطي الأخير انطباعاً بأن هذا القوي في مرحلة الأفول أو أنه ليس في مستوى قوته، مما يزيد من شهيته التوسعية. يريد هؤلاء، الذين يخالفون أوباما في واشنطن، إفهام بوتين حجم قوته، وفي رأيهم أن الرئيس الأميركي يعطي بوتين انطباعاً بأن أميركا ضعيفة أو أن «أوباما ليس في مستوى القوة الأميركية» وفق تعبير السناتور جون ماكين.
على الأرجح أن هؤلاء قد انتصروا في واشنطن على جون كيري في النصف الثاني من أيلول الماضي، وإذا كان باراك أوباما ليس في تلك الزاوية مع كيري، فعلى الأقل لم يعد في صفه تجاه موسكو. من هنا تريد موسكو تعديل موازين القوى العسكرية في سورية، عبر شرق حلب، قبل وصول رئيس أميركي جديد الى البيت الأبيض يوم 20 كانون الثاني 2017 وتجاوز معادلة (لا غالب ولا مغلوب) التي كانت في بيان جنيف -1 التي بني عليها مفهوم (هيئة الحكم الانتقالي) باتجاه وضع عسكري جديد تكون فيه المدن السورية الكبرى الثلاث والساحل بيد السلطة السورية وحلفائها وهو ما يرى الروس أنه يقود إلى موت جنيف -1 ومفهوم (الحكم الانتقالي) نحو صيغة حكومة وحدة وطنية موسعة تكون فيها ترجمة سياسية للوضع العسكري السوري الجديد.
على الأرجح، ستحاول واشنطن منع نجاح تلك المحاولة الروسية ضمن المدى الزمني الى يوم 20 كانون الثاني المقبل حيث سيكون هناك اشتعال سوري كبير بحكم ذلك الكباش الروسي – الأميركي.
الحياة اللندنية