ما الذي يدفع شخصيات عالمية، ذات مستوى ذهني مرموق، ومدعومة بنصح فرق بحث وعمل لا حدود لإمكاناتها المتاحة، إلى الإصرار على عقد اجتماع، كمحادثات جنيف-3، بين نظام دمشق والمعارضة، على رغم بداهة الواقع الذي لا مفرّ منه، وهو أنه يستحيل على أي من الطرفين القبول بالحد الأدنى الذي يشترطه الآخر لمجرد الشروع في المفاوضات؟ فلا النظام على استعداد للتنازل، خصوصاً وقد منحه التدخل الروسي فرصة استعادة زمام المبادرة ميدانياً، ولا المعارضة قادرة أو راغبة في الاستسلام، وهو ما يشكّله مجرد القبول باستمرار النظام، الذي يبدو أنه توقع الجهة المفترض بها أن تكون الداعمة لهذه المعارضة، أي الولايات المتحدة.
ثم ما الذي يدفع وزير خارجية القوة العظمى الوحيدة، أقلّه وفق المعطيات الموضوعية، الى أن يرضى، على هامش لقاءات ميونيخ، باتفاق لوقف الأعمال العدائية في سورية وفق شروط تفرّغ الاتفاق من محتواه، حتى قبل أن ينتهي تجاذب أطراف الحديث في شأنه؟
طبعاً، الميل في معظم القراءات العربية هو إلى اعتبار هذه الخطوات دليلاً على خبث الولايات المتحدة. فواشنطن تزعم التزام المواقف المبدئية حول ضرورة إسقاط النظام السوري لما ارتكبه من جرائم لا يمكن معها إعادة تأهيله.
غير أنها أعادت ترتيب أولوياتها ليصبح القضاء على “داعش” شرطاً مسبقاً لفعل الإسقاط، بل أوضحت طبيعة جهودها ليتحول السعي إلى القضاء على “داعش” مهمة طويلة الأمد تكاد أن تكون مستعصية وفق اللاءات التي أُعلنت، أي لا قوات برية أميركية، ولا عمل خارج إطار الشرعية الدولية، ولا تمكين للمعارضة القائمة.
فالموقف المبدئي، وإن كرّره الرئيس باراك أوباما في خطابياته الفذّة، جرى تسويفه تباعاً إلى حد التبديد. في المقابل، يبدو أن واشنطن وجدت حزماً غير معتاد في حديثها مع المعارضة، عند إصرارها على مجاراة المسعى الروسي وتحميل فصائل المعارضة مسؤولية الكارثة الإنسانية التي يُعَدّ لإنزالها بحلب، بل في دعمها المشترك مع روسيا لفصائل كردية من شأنها تكرار ما سبق أن أقدمت عليه من تبديل في التوزيع السكاني للمناطق التي تسيطر عليها، من دون أن تتأكد قدرتها على تحقيق ما تتوقعه واشنطن منها، أي إنزال كامل الهزيمة أو بعضها بـ “داعش”.
فهل من وسيلة غير توجيه الاتهام بالنفاق والخبث لتفسير ما يبدو كأنه اندراج أميركي في التوجه الروسي، مع الحفاظ على تمايز غير ملموس للتمويه بأن الخطاب والرؤيا لا يزالان على ما كانا عليه من معايير؟
لا يمكن، بل لا يجوز استبعاد فرضية الكذب والخديعة. ولكن ثمة تفسيرات أخرى قد تكون أكثر انسجاماً مع الوقائع، وأكثر فائدة في السعي إلى التفاعل مع المواقف، وإن لم ينطوِ أي منها على ثناء للأداء الأميركي في الموضوع السوري.
ولا بد لتقويم موقف واشنطن من تأطيره بالرؤية السياسية العامة لأوباما، والتي اعتبرت أن الحكومة السابقة، أي إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، ورّطت الولايات المتحدة بحروب لا جدوى منها. فإفراط بوش يقتضي التراجع وإن بدا في ذلك تفريط، وأية عواقب سلبية تقع مسؤوليتها مباشرة على فعل التوريط البوشي، لا فعل الانسحاب الذي حققه أوباما.
فسورية، على رغم جسامة ما شهدته، لا تعني أوباما، ولا تعني عموم المواطنين في الولايات المتحدة. والطرح الواثق الذي يتكرر هو أن على الولايات المتحدة أن تكف عن تولي دور شرطي العالم، وليعالج هذه المشكلة الأدنى فالأدنى، أي حكومات الشرق الأوسط ثم أوروبا.
في إطار هذا التصوّر، على المعني بالشأن السوري، خصوصاً من يعتبر هذه القضية ذات خطورة بديهية، أن يدرك أن اعتباراته لا تجد صدىً ثابتاً في واشنطن. فسورية شأن غيرها من القضايا، على هامش الاهتمام، وإن عانت من تضخّم إعلامي دوري. وحين تكون القضية قليلة الأهمية، تكون معالجتها عرضة للآراء الآنية.
ومن يصرّ على أن من الصعب تصديق أن أميركا لا ترسو على برّ في الموضوع السوري، عليه أن يستعرض التذبذب والتخبط والتنطح والتنصل في سائر مواضيع سياستها الخارجية، بل حتى في المسائل التي يزعم فيها الرئيس الأميركي الوضوح والثبات، كالشأنين الإيراني والكوبي، فخر إنتاج عهد أوباما.
ومن يشكّك في اتهام الديبلوماسية الأميركية بالعبثية، عليه أن يراجع تحديداً الملف الفلسطيني- الإسرائيلي الذي خصّص له معالي الوزير الرحّالة جون كيري، فائق الجهود من الجعجعة التي لم تشهد طحناً، وما كان لطحنها أن يتحقق أصلاً وفق التباعد القطعي بين الجانبين.
ثمة توجّه في المنهج الأميركي يعتبر أن استمرار الشكل يبقى ذا فائدة وإن غاب المضمون، لما يتيحه من إقامة علاقات بين الأطراف المتنابذة، ومن الاستفادة من فرص قد لا تكون ظاهرة لحظة الشروع بالتواصل.
غير أن عائدات هذا المنهج لا بد أن توازن بتكاليفه على غير صعيد، واستدعاؤه يبدو بالتالي اعتذارياً. هل هي سذاجة أميركية أم تفاؤل أميركي؟ أم إصرار منهجي على الحفاظ على الشكل؟ هل هي نتاج اللامبالاة، أو السذاجة، والتي على رغم عظمة هذه القوّة العظمى لا يمكن إهمال احتمالها؟
يبقى تفسير آخر، وإن انحدر إلى مستوى القراءة النفسية، وهو التفسير بالغرور. فقد قال الرئيس الأميركي إن التدخل من شأنه أن يجعل الاحتجاج السوري حرباً أهلية، ولكنْ ألم يكن اندلاع الحرب الأهلية مدعاة لإعادة النظر؟
وأشار الى أن الدور الأميركي يطلق العنان للحركات الجهادية، ولكنْ ألم يكن استيلاء هذه الحركات على الثورة السورية سبباً كافياً لإعادة تقويم؟ وهو لفت إلى أن العمل الأميركي يمكن أن يوسّع الأزمة إلى أبعاد تطاول المنطقة والعالم، ولكنْ أليس تحوّل سورية ساحة حرب عالمية مصغّرة دافعاً للتساؤل عن صوابية الرؤية؟
الجواب في كل هذه الحالات يبدو بالنفي. فالاعتذاريون حاضرون لتبرير التخلّف وللتصفيق للتنصّل باعتباره شجاعة ووضوح رؤية.
ومهما كانت الأسباب والدوافع والمبررات، فالرسوب الأميركي في سورية ليس شأناً عرضياً، بل أمر يتطلب إعادة تقويم للقصور، بشقّيه الموضوعي والمعنوي. وتبقى المأساة السورية، في غياب الإقرار الأميركي والدولي بالمسؤولية، مفتوحة أمام مزيد من الموت والدمار.
مركز الشرق العربي – الحياة