أقسى اللحظات التي يعيشها الإنسان, هي تلك اللحظات التي يفقد فيها أخاً أو ابناً أو قريباً, أو عندما يفقد وطناً وأرضاً.. فقد يكون البيت وطنا, وقد يكون الزقاق وطنا وقد يكون الحي وطنا, وقد تكون المدينة وطنا.
في القرن الواحد والعشرين – وعلى مرأى ومسمع من العالم الصامت المتفرج – يعيش السوريون أقسى اللحظات, ففي كل لحظة تمر يفقد السوريون ابناً أو أخاً أو أبا أو أماً أو عائلة كاملة.
أما اليوم فهم يفقدون وطناً ويغادرونه على أمل الرجوع إليه منتصرين, هذه اللحظات العصيبة عاشها أهل داريا وخان الشيح وحمص والمعضمية وكثير من المدن والبلدات السورية, والآن يعيشها أهل حلب, الذين تواطأ المجتمع الدولي كله في سبيل إخراجهم من مدينتهم وأرضهم وبلدهم في سياسية ظالمة تقوم على مبدأ التغيير “الديموغرافي”.
المقاتلون يخرجون بأغلى ما يملكون, إنها بندقيتهم التي استعملوها طويلا في الدفاع عن أنفسهم وأهلهم وذادوا بها عن أعراضهم, بندقيتهم التي كانت ملازمة لهم في كل أوقاتهم على جبهات القتال والرباط, أما المدنيون فيحزمون حقائبهم التي وضعوا فيها ملابسهم وبعض صور ذكرياتهم في مشهدٍ حزين يدمي القلب ويجرح الفؤاد.
تاركين ورائهم بيوتهم وممتلكاتهم وحاجياتهم وسياراتهم وأغراض بيوتهم و ألعاب أطفالهم وأسرة نومهم الصغيرة, لتدخل قطعان الغرباء كي تحتل الأرض وتعبث بالمكان وتدنس حرمته, لتسرق الممتلكات وتخرب البيوت وتأر من حجارتها, مدفوعين بنار حقدهم الذي يغلي في الصدور.
ونتيجة لهذه السرقات التي قاموا بها, وعمليات النهب التي فعلوها في كل مكان يدخلونه بعد تهجير أهله, أُطلق مصطلح شعبي في سورية باسم “العفّيشة”, دلالة على هؤلاء اللصوص “الجنود والشبيحة والمليشيات المارقة” السارقين لمقتنيات المنازل الناهبين لممتلكات السوريين.
وجرت العادة أن تدخل هذه العصابات بعد كل موجة تهجير قسري, لتعبث بالبيوت وأثاثها وتسرقه وتبيعه في أسواق القرى الموالية بأسعار رخيصة.
ولأن الحلبيين شاهدوا هذا الأمر الذي جرى في ممتلكات المهجرين الذين سبقوهم في حمص وريف دمشق, لذلك يقومون الآن بحرق بعض ممتلكاتهم وسياراتهم وحتى بيوتهم بالكامل قبل خروجهم منها, وانتشرت العديد من مقاطع “الفيديو” المصورة على الشبكة العنكبوتية والتي توثق هذه الأعمال, مشاهد قاسية يعلوها الصراخ والبكاء عندما يشاهد السوري في حلب النار تنتشر في جنبات بيته لتحرقه وهو على موعد مع رحلة شاقة من التهجير القسري.
لم يرد الحلبيون بهذا التصرف إلغاء هويتهم وآثار وجودهم ضعفا منهم ولا عجزا, بل على الإطلاق, فهم أرادوا أن يحرموا هؤلاء اللصوص من الاستفادة من إي شيء يتركونه خلفهم, كيف لا وهم من يهجرونهم غصبا وعنوة عنهم.
وإن أقسى تلك المشاهد هي:
عندما أحرق أحد الحلبيين منزله في حي الشعار, وهو يبكي ويتألم ويقول:
“هنا حي الشعار الذي لم يبقَ فيه أحد, وهذا منزلي الذي أحرقته بنفسي, وأحرقت كل ما بداخله, سأترك المكان وارتحل, أدعوك يا الله أن تردنا إلى مسقط رأسنا!”.
نعم هم يحرقون البيوت والممتلكات, ولكنهم لا يحرقون الذاكرة, فلن ننسى أننا أُجبِرنا على الرحيل من حيّنا يوماً ما, وسنعود من جديد, فلا مكان للغرباء في أرضنا, سنرجع يوماً إلى حيّنا.. إن شاء الله..
المركز الصحفي السوري- فادي أبو الجود