في المقدمة القصيرة التي كتبها تولستوي لرواية “الحرب والسلم”، سأل نفسه (وربما كان يسأل قراءه في كل زمان ومكان): لماذا تحارَب ملايين البشر، وقتل بعضهم بعضاً، على حين أن كل واحد منهم كان لا يأمل أن تؤدي به الحرب إلى حال أحسن من الحال التي هو عليها، وكانوا جميعاً مهددين من الحرب بالوصول إلى حال أسوأ من الحال التي كانوا عليها. من ذا الذي أمرهم بهذا؟ ولماذا فعلوا الذي فعلوه؟
وبالاستعانة بأسئلة تولستوي، يمكننا أن نستفسر عن السبب الذي يجعل البشرية جمعاء تحتفي بإلياذة هوميروس، علماً أنها كتبت لتمجيد حرب انتقام شنها التحالف اليوناني ضد مدينة طروادة؟ وإذا كان تولستوي يسمي الحرب بالحدث العجيب السخيف، فإن الثقافة العربية لم تسأل نفسها بعد عن الحرب، على الرغم من أن المنطقة العربية لم تبرأ من الحروب منذ مطلع القرن العشرين، حتى يومنا هذا. وهي حروب ذهب ضحيتها الآلاف من الرجال والنساء والأطفال من دون أي جدوى تقريباً.
بدل ذلك، نرى أن الثقافة العربية مجتمعة، لا ترتبك إزاء كمّ القتلى المتراكم في ماضي العرب، أو حاضرهم، أو في المدى المنظور لمستقبلهم. بل قد نرى مَن يفرّ من الحديث عن فجورها، إلى إنشاءٍ بلاغيٍ يستدعي من خلاله رموزاً تراثية شهيرة في الشعر العربي مجّدت الحروب، وأعلت من شأن القتال، أو السلاح فوق أي شأن إنساني أو أخلاقي آخر يمكن أن يرتقي بالنفس البشرية.
فـ”السيف أصدق إنباءً من الكتب” و”العلم في شهب الأرماح لامعةً”. وثمة مَن يهرب من استحقاقاتها الأخلاقية والإنسانية والفكرية إلى الزهو بعدالة الحرب التي لم تخضها الثقافة كما يجب، ولا خاضتها الجيوش، كما يجب أن تخاض، أعني حربنا مع العدو الإسرائيلي، فيدعو إلى ما سماه بعض الكتّاب العرب: “أدب الحرب”، للتعويض عن الخسائر المزمنة التي آل إليها الحال بعد أكثر من ستين عاماً من المواجهات مع العدو.
واللافت أن أدب الحرب العربي، الذي دعا إليه بعض الكتّاب العرب، لا يريد أن يسأل عن الأدب، أي عن القيمة الفنية التي يمكن أن تمنح الكتابة جدارة اسمها، ويكتفي بالهتاف الشعائري، ذلك أن “أدب الحرب هو العتاد الروحي الثقيل الذي يملك وحده إمكانيات صياغة الوجدان العربي من جديد”، كما كتب غالي شكري في أعقاب حرب تشرين (أكتوبر). أو يوبخ الكتّاب العرب، قائلاً: “هل يبنون حساباتهم على خلود كتاباتهم بأكثر ما يبنونها على انتصارات أمتهم؟”، كما فعل حنا مينه ونجاح العطار في كتابهما “أدب الحرب”.
لم نشهد بعد في أدبنا الحديث إلا القليل من الأعمال التي كشفت فداحة آثار الحرب، حين تخاض دون أخلاق، حتى لو عادلة، كما فعل يوسف القعيد في “الحرب في بر مصر”، وما تزال الانحيازات السياسية تتفوّق على العطف الإنساني، إذ لا ترى الدعوات إلى أدب الحرب الضحايا، ولا دمار المدن والقرى، ولا خراب الأرواح، ولا حزن البشر.
ممدوح عزام – العربي الجديد