لأن الأزمةَ السوريّةَ معقّدةٌ جداً وملتهبةٌ وتدميريّةٌ قبل تداخلها المباشر مع الوضع في العراق وبعد هذا التداخل، ماذا لو قمنا اليوم بتمرين يحاول تبسيط هذه الأزمة – الحرب الضارية من منظور حدود الدول المحيطة وبالتالي قرار تهدئتها مثل تفجيرها كقرار حدودي؟
العمل الأول في هذا التمرين عملٌ حدودي. أي أن ننتبه إلى أنه بعد كل شيء، كل شيء، فإن الصراع العسكري في سوريا مفتوح على “حدودَيْن” اثنتين أساسا بل من الناحية العملية “لا ثالثة” لهما: الحدود السورية مع تركيا والحدود السورية مع الأردن. أما الحدود مع العراق ولبنان وإسرائيل فهي حدود “تابعة” وليست الأساسيّة في الصراع السوري.
إذن كلُّ الحدود السوريّة الأخرى هامشيّة في الصراع داخل سوريا وإذا لم تكن هامشيّة فهي لا قيمة فعليّةً لها من دون “الحدودَيْن” الإثنتين مع تركيّا والأردن، البابَيْن الرئيسيّيْن لعملية عَسْكَرةِ الأزمة السورية التي حصلت في أواخر عام 2011 بعد أشهر قليلة من الثورة المدنيّة الطابع والداخليّة الطابع فيما هذه العسكرة، أي فتح “الحدودَيْن” التركية والأردنية مع سوريا، حوّلت الأزمة إلى أزمةٍ خارجيّة إقليميّة ودوليّة لا تزال مستمرّة وإلى حرب أهليّة معاً.
ماذا تعني “التّتْرَكَة” و”الأَرْدَنة” الحدودية للحرب السوريّة؟
تعني أنه إذا شاءت “لعبة الأمم” الإقليميّة والدوليّة أن تقفل هاتين “الحدودَيْن” فإن الحرب السوريّة تصبح أسهل على الحل بل تصبح مهيّأةً لعزل الداخل الذي سيصبح ترتيبه في هذه الحالة مسألة وقت وربما أسرع من المنتَظَر.
ماذا يبقى من جبهتي الشمال الأساسيّيتين في حلب وريف إدلب لو قرّرت الحكومة التركية لسببٍ ما، أو لأسبابٍ ما، أن تقفل حدودها مع سوريا؟ وماذا سيبقى من جبهة الجنوب لو قرّرت السلطة الأردنيّة إقفال حدودها مع سوريا؟ أي منع كل أنواع تدفّق المقاتلين والأسلحة إلى الداخل السوري أو سد منافذ الخروج على ميليشيات المعارضة؟
لنتخيّل أن اتفاقاً دوليّا حصل على هذا الإقفال فالسؤال الثاني في هذا التمرين التبسيطي سيصبح: كم سيستغرق وقف إطلاق النار الشامل ولاحقا انتهاء الحرب بصورتها الراهنة الطاحنة وعودتها لتكون “مجرد” (مع الاعتذار على كلمة “مجرّد” بعد كل هذه الضحايا) أزمة داخلية بين النظام السياسي وشرائح معترضة من النخبة والمجتمع؟
الأرجح بل المؤكّد أن إقفال “الحدودَيْن” التركيّة والأردنيّة سيعني السيطرة المباشرة على مسار الحرب أي وقفها.
نقول ذلك لنخفِّف على أنفسنا الدُوار الذي يصيبنا من مجرّد التفكير بصعوبة وقف الحرب بعد كل هذا التداخل والتفتّت العسكري في سوريا. التبسيط هنا يضيء على الحقيقة الحدوديّة الصارخة للأزمة السوريّة منذ بدأت عسكرتُها، أي منذ قرّر الغرب وحلفاؤه إنهاءَ الطابع المدني للثورة، أي إنهاء الثورة، وتحويلَها إلى حرب عسكرية من حدود مفتوحة ومنظّمة شمالاً مع تركيا وجنوبا عبر الأردن… كل ذلك بهدف الإسراع في إسقاط النظام، والبعض في المعارضة بات يقول همساً، بهدف تدمير سوريا بذاته.
إذن المسألة التي تبدو الآن وكأنها دخلت في طاحونة أكثر من عشر سنوات آتية ربما، لنبسِّط على أنفسنا، قد لا يستغرق وقفُها الوقتَ الطويلَ الذي نظنّها تحتاجه حاليا.
طبعا ما حصل في سوريا في السنوات الأربع المنصرمة تحتاج معالجاته في البشر والحجر وتفكك المجتمع والدولة وتدمير سبع مدن كبيرة وأرياف لا تحصى إلى عشرات السنوات. لكنْ ما أعنيه هنا هو أن السيطرة على هذه الحرب ليست بالصعوبة التي نتصوّر متى توفّر إغلاق “الحدودَيْن” التركية والأردنية.
أعرف أنه فات الأوان ربما على خروج صوت شجاع من المعارضة العلمانية أو المدنية ليعترف أن الثورة ماتت بصيغتها الأولى وأن سوريا، كياناً ومجتمعاً ودولة، باتت تحتاج إلى إنقاذ يتجاوز مجرّد موضوع الاعتراض على النظام الذي أصبح موضوعا ثانويا قياسا على المخاطر الوجودية التي غرقت فيها سوريا. أين هو هذا الصوت الشجاع القادر على الاعتراف بأن ما تحتاجه سوريا اليوم هو الإنقاذ لا الثورة التي تحطّمت بين مدافع النظام والوحوش الأصولية والمخطّطات الخبيثة للدول الإقليميّة والدوليّة المهمّة في هذا الصراع؟
يبقى سؤال آخر ربما يبدو وكأنّه يعيق هذا التمرين التبسيطي أو يتناقض معه. أعني ظاهرة “داعش” باعتبارها ممتدّة على سوريا والعراق معاً ممّا قد يلغي الخصوصيّة السوريّة للحل؟
هذه الخصوصية موجودة. فوجود “داعش” السوري هو أساسا في مناطق “هامشية” في الجيوبوليتيك الحربي والسياسي السوري من أقاصي ريف حلب الشرقي إلى مدينة الرقة. الأساس أن “داعش” موجودة في الصحراء السورية بينما مناطق الصراع، تاريخيا والآن عسكريا، هي على الخط الذي صنع دوما شخصية سوريا الحديثة وهو الآن محور الصراع الضاري الخارجي عليها: مثلّث دمشق حلب الساحل. هذه هي سوريا السياسيّة منذ عهد الانتداب الفرنسي مرورا بحقبات الاستقلال. أقصد من الناحية السياسيّة مع كل الاحترام النضالي والرومنطيقي لمناطق الجزيرة. بينما في العراق “داعش” وصلت إلى القلب: إلى حدود بغداد وسيطرت على المدينة الثانية أو الثالثة في البلاد، الموصل، ووقفت على حدود “الحصان الذهبي” للنظام الدولي في العراق أي الإقليم الكردي وهدّدتْهُ. وهذا أمر مختلف عن وضعها في سوريا.
عندما قرّرت “لعبة الأمم” في الحرب الأهلية اللبنانيّة وقف الحرب في الثمانينات من القرن المنصرم باشرت بقطع اقتصاد الحرب عن القوى الداخلية. أما في سوريا فبنية الحرب العسكريّة حدوديّة. ذات يوم قد نُدْهَش من مدى قدرة “لعبة الأمم” على وقف سريع لما يبدو انه الآن صراعٌ أبدي.
جهاد الزين – النهار