مضى على معركة القصير أكثر من ثلاث سنوات، حيث خاض حزب الله بشكل رئيس حرباً ضد قواتٍ معارضةٍ محليةٍ، واستطاع، بعد أكثر من شهر، دخول المدينة الصغيرة، ورفع شعار “ثارات الحسين” فوق مسجدها الرئيسي. كانت الصحافة، بكل أنواعها وتوجهاتها، تطرح تساؤلاتٍ عن نهاية الثورة بشكل مسايرٍ للمعارك الدائرة في شوارع القصير، وتربط بين الاستمرارية ونتائج الحرب، ويوحي بعضها بأن نتيجة المعركة هي نتيجة الثورة النهائية، مع تركيزٍ شديدٍ على ألوان الطيف المذهبية للمعركة.
على الرغم من أهمية المدينة الواقعة على مقربةٍ من عقدة طرق استراتيجية، وملاصقتها الحدود اللبنانية، حيث الوجود المكثف لحزب الله، إلا أنها لم تكن إلا مدينة صغيرة ضمن مدنٍ كثيرة يتطابق وضعها العسكري مع القصير، لكن ربط مصير الثورة بمصير القصير كان مريباً وملحاً حتى صدّقه بعضهم.
بشكلٍ مشابه، أصر الإعلام على متابعة معركة حلب الشرقية، باعتبارها مصيراً نهائياً للثورة، وازداد الزخم الإعلامي على شكل تغريداتٍ وتعليقاتٍ، مع تقدّم قوات النظام في أحياء القاطرجي والصاخور وكرم الشعار، حتى أصبح وقوع حلب تحت مظلة النظام حقيقة واقعة. تعالت النغمة مع نتائج مؤتمر أصدقاء سورية الذي تمخض عنه قبول للمفاوضات “بدون شروط مسبقة”، عبر عنه وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، “متعهد” الثورة، وورد على لسان رئيس وفد التفاوض، رياض حجاب. وقد ساد شعور عام بأن نتائج الثورة صارت مجرد ما قد يتركه النظام لوفد التفاوض، هذا إن ترك شيئاً. وأصبحت حلب مركز مواجهة، الغلبة فيها ستكون للأقوى، ومفهوم الأقوى مرتبطٌ بعناصر موضوعية كثيرة، يتعلق غالبها بالتحالفات والاتفاقيات، ومصالح كبرى وصغرى، يتحكّم فيها أطراف ليسوا سوريين بالضرورة. يتعلق هذا المنطق بنتائج حروب مرحلية، وليس له علاقة بنتائج الثورات التي لها سياقات مختلفة، وهدفها إجراء تغيير كلي.
في حلب وفي القصير وفي غيرهما، كان الصراع عسكرياً محضاً، هدفه كسب الأرض، تمهيداً للمعركة التالية. والكتائب المعارضة، ومعظمها إسلامي الطابع والهوية والهدف، تُغرق القطاع الواقع تحت سيطرتها بشعارات الشرعية وحكم الله، أما النظام فيستعيد ما خسره، ويعيد سيرته في تطبيق ما يعرفه من دروس القمع والانتقام، لكنه أيضاً لا يمانع في السيطرة على بقعةٍ فارغةٍ من السكان. هذه السلوكيات العسكرية تجعل مفهوم الحرب الأهلية يطفو على السطح، ويفرض نفسه على وسائل الإعلام، وعلى عقلية الدبلوماسي الغربي الذي يشاهد بمنظارٍ مقرّبٍ، ويعتقد بأنه يساهم بفعالية عند تطبيق عقوباتٍ على هذا الشخص أو ذاك، فيما يدور على الأرض شيء مختلف، يدخل في تركيبته طبيعة النظام ورغبة السوريين وإرث طويل من المعاناة والإقصاء.
بدأت الثورة السورية مع مجموعة أشخاص ثاروا بمظاهرة غاضبة في سوق الحريقة، وجدت مغامراً يصوّرها بأصابع وجلة ومستعجلة، تبعتها سريعاً مظاهرات درعا التي ألهمت جميع المدن السورية، وكان التعبير فيها واضحاً ومباشراً. وعلى الرغم من الطبيعة غير المنظمة للمظاهرات عموماً، ومن ثم إخمادها بشكل نهائي، إلا أن الوعي بما لم يعد مقبولاً كان حاضراً، ولا يزال يحتل العمق والقوة نفسيهما، وهذا لا يرتبط بمعركة ولا بتسليح ولا بدعم دولي، ولا يأبه بفيتو في مجلس الأمن، ولا بإجماع في الجمعية العامة. ولا علاقة للشعور الذي يحمل طبيعةً اجتماعيةً تغييريةً بوجود قوى إسلامية متطرفة وإرهابية، ولا يلغيه توالد شخصياتٍ سياسيةٍ انتهازيةٍ، تستغل الظروف لمصالح شخصية.
الثورة إرادة جماعية عامة، حدثت بشكل قصدي، وتجذّرت طوال سني الحرب، ولعل الوقت الطويل زاد في تعميق جذورها، لأنها لا تقتات على المعارك، ولا على السلاح، ووجودها مربوط بوجود النظام وطبيعته الهمجية، وهي باقية ما بقيا. وخسارة المعارك الجانبية محطات بسيطة تزيد في شحنها. والنظام الذي رفض وجود معارض واحد طوال عقود حكمه وصل إلى مرحلة أوجد فيها نداً أخلاقياً جارفاً، اكتسب عنفاً وقسوةً، ولن يتوقف حتى يراه جثة هامدة.
العربي الجديد – فاطمة ياسين