ليس هناك إنسان بكامل عقله في بلدان الربيع العربي يريد للدمار والفوضى والتناحر وسفك الدماء أن يستمر. ولا يمكن لأحد فيه أبسط المشاعر الإنسانية أن يقبل ببقاء اللاجئين والنازحين السوريين والعراقيين واليمنيين والليبيين خارج بيوتهم يعانون شتى أنواع العذاب. ولا بد من بذل كل الجهود لإنهاء مأساة الشعوب، وخاصة في سوريا والعراق وليبيا واليمن، حيث عمل أعداء الثورات في الداخل والخارج على تحويل الربيع إلى جحيم حارق انتقاماً ممن ثار من أجل قليل من أوكسجين الحرية. لنتفق إذاً على ضرورة إنهاء مأساة الشعوب في تلك البلدان. لكن لا بد أن يكون ذلك على أساس عقد اجتماعي جديد كي لا تذهب تضحيات الشعوب ومعاناتها أدراج الرياح، وكي لا تعود الأنظمة الحقيرة التي ثار عليها الناس من النافذة بعد أن أخرجوها من الباب.
إن الذين يتباكون على وضع الشعوب في سوريا وليبيا واليمن والعراق إنما يذرفون دموع التماسيح، وأن الحل السياسي الذي يدعون إليه هو حق يُراد به باطل. فلو كان الحل يـُفضي إلى أنظمة سياسية واقتصادية واجتماعية جديدة فلا بأس أبداً، لكن الحلول المطروحة هي مجرد ألعاب قذرة مفضوحة هدفها إعادة الشعوب إلى زريبة الطاعة بحجة وضع حد لمأساتها الحالية. ما الفائدة بربكم أن تعود الشعوب إلى المربع الأول، وكأنك يا بو زيد ما غزيت؟ لا نريد من هذا الكلام أبداً أن نطيل من مأساة الشعوب، لكن علينا أن ننظر إلى تجارب الثورات التي قبلت بالحلول السياسية الكاذبة، فكانت النتيجة وبالاً عليها، كما حدث للشعب الجزائري في تسعينات القرن الماضي. لقد ثار الشعب الجزائري لعقد كامل، وقدم مئات الألوف من التضحيات، ثم التف الجنرالات على ثورته بالقتل والإجرام والتجويع والتعذيب والإفقار والإخضاع، فجعلوه يلعن الساعة التي ثار فيها، ويقبل بأي حل يعيده إلى أيام الطغيان الخوالي. وهذا ما حدث فعلاً، فلم يجن الجزائريون من ثورتهم سوى العذاب والتهجير والقتل والجوع والفقر، ثم عادوا مجبرين إلى تحت السلطة التي ثاروا عليها، وتكبدوا أفدح الخسائر المادية والإنسانية بسببها.
للأسف الشديد تبدو بعض الشعوب العربية الآن وكأنها تطبق مقولة المفكر الانكليزي الشهير ألدوكس هكسلي الذي قال يوماً: “الدرس الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ أن لا أحد يتعلم من التاريخ”. وقد قال آخرون أيضاً إن من ينجز نصف ثورة كمن يحفر قبره بيديه. وهذا ما حصل للجزائريين، ثم حصل من بعد لليمنيين. فبدل أن يمضي اليمنيون بثورتهم حتى ينجزوا مطالبهم، قبلوا بحل سياسي كارثي، فكانت النتيجة أن النظام الذي ثاروا عليه، وتركوه طليقاً، تآمر مع خصومه الحوثيين كي ينتقم من الشعب اليمني. وها هم الحوثيون وقد أعادوا الثورة اليمنية إلى نقطة الصفر بعد أن انقلبوا على كل أهدافها. ألا يشعر اليمنيون الآن بأن ثورتهم سُرقت، وبأن كل تضحياتهم ذهبت سدى، لأنهم قبلوا بأنصاف حلول سياسية كاذبة؟
وحدّث ولا حرج عن سوريا التي يطالب الكثيرون الآن بإيجاد حل سياسي فيها. مرحباً بالحل السياسي إذا كان سيلبي للسوريين أبسط متطلبات ثورتهم. لكن هل الحل فعلاً سيداوي جراحات السوريين، ويجعلهم يشعرون بأن تضحياتهم الجسيمة لم تذهب أدراج الرياح؟ ألم تصف الأمم المتحدة الوضع في سوريا بأنه أكبر مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية؟ هل يُعقل بعد كل ما عاناه السوريون على أيدي أفظع نظام فاشي في العصر الحديث أن يقبلوا بحل سياسي يُعيد الشرعية لمن دمر وطنهم وهجّر أكثر من نصفهم؟ أليست وصمة عار في جبين البشرية أن يُعاد السوريون إلى حظيرة الطاعة بحجة أنهم عانوا كثيراً بسبب الثورة؟ ما فائدة الحل السياسي في سوريا إذا سيكون نسخة مفضوحة عن السيناريو الجزائري الذي أعاد الجنرالات إلى الحكم بشرعية جديدة رغم كل ما اقترفوه بحق الجزائريين؟
هل تعلم بشار الأسد ونظامه شيئاً من الكارثة التي ألحقها بالشعب؟ لا أبدا. هل يريد أن ينتقل بسوريا إلى مرحلة جديدة، أم إنه يتوعد السوريين بالويل والثبور وعظائم الأمور فيما لو تمكن من رقابهم مرة أخرى؟ ألم يقل بشار في مقابلته الأخيرة مع البي بي سي إنه لا يتذكر خطأً واحداً اقترفه بحق السوريين على مدى أربع سنوات؟ ألم يستبدل قوانين الطوارئ الرهيبة بقوانين أشد وأمضى، وهي قوانين الإرهاب التي جعلت السوريين يترحمون على قوانين الطوارئ؟ هل يعقل بعد كل ما حصل في سوريا من تضحيات أن المخابرات السورية تعتقل الناس، وتعذبهم حتى الموت في السجون لأن بعضهم وضع “لايك” على منشور لمعارض سوري في الفيسبوك؟ هل يعقل أن الإنسان السوري حتى هذه اللحظة يخسر وظيفته لمجرد كلمة قالها ضد النظام الفاشي؟ هل يعقل أن نظام المخابرات القذر يصادر أرزاق السوريين بسبب مقالة أو برنامج تلفزيوني؟ هل سمعتم بشار الأسد على مدى أربع سنوات يتلفظ بكلمة مواساة واحدة بحق خمسة عشر مليون نازح ولاجئ سوري، أم إنه يظهر على الشاشات وهو يقهقه؟ هل سمعتموه يعترف بمسؤوليته عما حدث؟ ألا يعترف القائد الحقيقي بالمسؤولية بصفته المسؤول الأول عن مصير البلاد والعباد؟ أليس من السخف الشديد أن يقبل السوريون بحل سياسي يعيدهم إلى تحت أحذية العسكر وأجهزة الأمن الفاشية التي تتوعدهم بكل أنواع العقاب، فيما لو تمكنت السيطرة على الوضع ثانية؟ انظروا إلى وضع المناطق التي صالحت النظام. ألم يبتزها بلقمة عيشها، ويغتصب أهلها كي يعيدها إلى زريبة الخضوع؟ أليس حرياً بالسوريين أن يعلموا أن النظام الذي استخدم ضدهم كل أنواع الأسلحة المحرمة دولياً سيفعل بهم المزيد فيما لو استعاد شرعيته من خلال حل سياسي؟
أيتها الشعوب الثائرة: هل شاهدت ثورة على مدى التاريخ انتهت بحل سياسي بين الطغاة وشعوبهم، أم بكنس الطواغيت إلى مزبلة التاريخ؟
د. فيصل القاسم – القدس العربي