تعلمنا، خلال الثورة، لغاتٍ جديدة: التركيةَ والألمانية والسويدية والهولندية والفرنسية والإنكليزية، وما يلزم للسوري في أثناء الرحيل واللجوء والهجرة. وتعلمنا، كذلك، لغات الطعن، والتخوين، والاستحمار. أما اللغة الأهم فهي لغة الذكاء الخارق، والمفهومية التي يتحدثُ بها الشخص العليم، العَرّيف. هذا الشخص لا يُذْكَرُ أمامه موضوعٌ، أو فكرة، أو حادثة إلا وينظر إلى صاحبها باستخفاف ويقول له (بعرف)، حتى قيل، من باب الدعابة، إنه من آل بَعْرِفاتو.
ذاتَ يومٍ، كتب أحد الناشطين أن ظهور المنظمات الإسلامية المتشددة، كداعش وجبهة النصرة، في هذا الوقت، أمر طبيعي، فهي ليست سوى رد فعل عنيف على الاستبداد والمنع والإقصاء الذي مورس بحق السوريين بشكل عام، والمسلمين السوريين بشكل خاص، خلال أربعين عاماً من حكم عائلة الأسد. ومن جهة أخرى، لقد هيأت الثورة، وما رافقها من قمعٍ، وعنف، وفوضى، وتسلح، وأحقاد، وصراع بين الدول، مناخاً ملائماً للتطرف.
وما إن قرأ السيد بعرفاتو هذا الكلام، حتى انبرى ليوبخ كاتبه، ويقول له إن مَنْ يتحدّث بهذه الترّهات إما أنه بلا عقل، أو أنه أعطى لعقله إجازة مفتوحة. وبغية وضع الإخوة القراء أمام حقيقة ما يجري، وتعليمهم، وإفهامهم، وتنويرهم، يقول السيد بعرفاتو، راسماً على وجهه ابتسامة العارف الواثق من نفسه: أنا بَعْرف، تمام المعرفة، أن النظام، في بداية الثورة، تعمّدَ إطلاق سراح عدد كبير من الإسلاميين من سجونه، وهؤلاء أصبحوا، كما تعلمون، أمراء في “داعش” و”النصرة” وغيرهما من المنظمات التي تعمل لمصلحة النظام في المناطق المحرّرة.
قرأتُ هذه (المفهومية) بتمعن. وقلتُ في نفسي إن إنساناً ألمعياً، كالأخ بعرفاتو، ينبغي عليه أن يسأل عن السبب الذي جعل ذلك النظام يعتقل هذا (العدد الكبير) من الإسلاميين قبل الثورة. وهل ينبغي لنا أن نبارك هذا الاعتقال باعتبار أننا علمانيون، أو غير إسلاميين؟… ويا ترى، كم لبث أولئك الرجال في معتقلات النظام الرهيبة تلك؟ وهل كان اعتقالهم نتيجة سبب حقيقي؟ بمعنى هل كانوا ينتسبون إلى “داعش” و”النصرة” قبل تأسيسهما؛ أم لأنهم حملوا السلاح ضد ثورة الثامن من آذار والحركة التصحيحية المجيدة؟ بصراحة أكثر: هل كنتَ تريد، يا مستر بعرفاتو، أن يبقى هؤلاء المعتقلون يرزحون في تلك المعتقلات إلى الأبد؟ أم تمنيتَ لو أن المجرم بشار الأسد أعدمهم، مثلما أعدم والدُه حافظ وعمُّه رفعت الألوفَ المؤلفة من الذين قبلهم، فنتجنّب، بذلك، تَشَكُّلَ داعش والنصرة فيما بعد؟
لم أجرؤ، بالطبع، على تدوين هذه الأسئلة على هامش منشور السيد بعرفاتو، خشية أن يترك عقول الناس جميعهم ويتفرّغ لهجاء عقلي الذاهب في إجازة سنوية طويلة، فبعرفاتو لا يعرف هذا وحسب؛ بل ذهب إلى أن النظام السوري كان قد تنازل عن مدينة تدمر وما حولها، قبل نحو سنة، لداعش، بعد أن زوّد أمراء التنظيم بتعليماتٍ واضحةٍ ومشدّدةٍ على ضرورة أن يقتلوا ما طاب لهم من أبناء قرية “المبعوجة” الذين ينتمون للطائفة العلوية، لكي يقال إنه تنظيم طائفي، حاقد.. وأن يحطموا ما طاب لهم من التماثيل والأيقونات، لكي يُصَدِّرَ للعالم فكرة مفادُها بأن هذا التنظيم همجي، معادٍ للحضارة، والتاريخ. وأن يفرضوا على أهل تدمر الأفياء والمكوس، ويجلدوا الزناة منهم، والمدخنين، وأزواج النساء المتبرجات. ليستنتج القاصي والداني أن سجن تدمر الذي شيّده النظام الأسدي كان ضرورياً لكي تتمكن أخواتنا الجميلات من السهر حتى الثالثة فجراً، والعودة إلى بيوتهن آمنات.
أخيراً: ليس من المستبعد أن يستفيد النظام من وجود “داعش” و”النصرة” وغيرهما من المنظمات التي تستفيد، هي الأخرى، من وجود النظام، لكن الغريب في الأمر أن يشتغل هؤلاء (البعرفاتيون) على إظهار النظام السوري خارق الذكاء. أيُّ ذكاءٍ، وقد أحرق البلد ودمّرها، يا صاح؟
العربي الجديد