ثلاثة خطابات انهارت في سورية على نحو شبه متزامن، ما يجعلها تنفرد عن محيطها، بخاصة العراق ولبنان الواقعين أيضاً تحت وطأة النفوذ الإيراني. فمنذ بداية الثورة كان التنكيل بالحرية معلناً، إلى درجة بدت مثيرة للاستغراب والسخرية من نظام دأب على عدم إشهار طبيعته الاستبدادية لفظاً. أما خطاب التحرر الذي يُعدّ الركيزة الأساسية لمقولات الممانعة، فسرعان ما كشف محتواه الأساسي عندما أصبحت مواجهة إسرائيل تعني قتال سوريين آخرين بزعم عمالتهم لها، وعندما أعلن “حزب الله” أن قدسه تمر بسورية، ثم أخيراً عندما بلغت الحفاوة أقصاها مع التدخل الروسي ومنحه امتيازات سيادية ضمن الأراضي السورية، بل العتب على روسيا التي لا تزج بإمكاناتها جيداً في المعركة ضد سوريين آخرين.
أما المسألة الوطنية فبالكاد حملت خطاباً، ظهرت أصواته الأولى في ما سُمّي ربيع دمشق، ثم تولت الثورة التعبير عنه بشعارات أقرب إلى السطحية والسذاجة من تأسيس خطاب وطني مركّب مطابق للواقع المعقد. ويمكن القول إنّ أوان العديد من الافتراضات حول المسألة الوطنية بات ينقضي قبل تبلورها، تحت ضغط قوى خارجية لا تُعرف نواياها، وأيضاً تحت ضغط فاتورة دم يتعاظم تأثيرها وتتولى فرض وقائع جديدة.
لا يخرج عن الإطار ذاته تسرّب التنكيل بالحرية إلى مناطق خرجت عن سيطرة النظام، وأضحى بعضها في عهدة تنظيمات جهادية لا تعترف بمفهوم الحرية أصلاً، أو في عهدة أمراء حرب يدركون أن التضييق على الحريات السبيل الأنجع للتسلط والتهرب من المحاسبة. يُضاف إلى ذلك تسرب خطاب التحرر وطغيانه على خطاب الحرية على أرضية انتعاش المظلومية، وأيضاً بسبب النفاق الغربي في التعاطي مع حرية السوريين، وحيث يوصم الغرب بالنفاق يسقط التمييز بين سياساته الخارجية النفعية القابلة للتغيير والقواعد الراسخة التي تتأسس عليها المجتمعات الغربية وفي مقدمها الحرية. بالطبع، لا يجوز استبعاد موجات النزوح الهائلة من هذه المناطق، تحت ضغط براميل النظام وصواريخه، ما يُفقدها هويتها الاجتماعية القارّة كشرط أساسي من شروط الفعل السياسي.
وإذ يبدو النكوص إلى الهويات الصغرى سمة تجمع المشرق الممتد من العراق إلى لبنان، وفق مقال حازم صاغيّة “لمن الدور الأول في تجزئة الأوطان المشرقية؟” (“الحياة” 21/6/2016)، فإن ما كانت تتميز به سورية ضمن المفهوم نفسه هو وجود أكثرية مذهبية صريحة تشكل ضمانة من الاحتراب الأهلي الطويل، حيث كان يصعب تصور اندفاع أية أقلية عددية في اتجاه استخدام العنف. إلا أن ما كان يصح نظرياً أثبت الواقع فشله، إذ اتضح أن الميزان العددي ليس الأكثر تأثيراً في علاقات القوة، بمعنى أن الإمساك بمصادر القوة الداخلية أو الخارجية هو ما يحدد أولاً حجم الفعالية وتأثيرها.
أهم من ذلك، أن التفوق العسكري أثبت قدرة كبيرة على زحزحة الميزان العددي، عبر التهجير المنظم. وكان هذا منذ البداية، وما زال، في صميم التكتيكات الحربية التي يتبعها النظام وحلفاؤه، ما يؤدي إلى تصنيع كيان جديد تتمتع طوائفه أكثر من قبل بفرص النصر على مدى أبعد، بالتالي قد تمتلك أكثر من قبل حافز استخدام العنف. لا يقل أهمية عن هذا الاعتبار، تفريغ الأكثرية العددية من محتواها المعتدل الجامع بدفعها إلى الطائفية والتطرف، ما يفقدها ميزة تطويق الطائفية والتطرف من أطراف أخرى.
ما حصل أن فضح الجانب الطائفي للنظام وتحالفاته، لم يُبنَ عليه نهج مضاد للاستثمار الطائفي. كذلك قوبلت عمليات التغيير الديموغرافي بالوعيد الذي يقلل من أهميتها ضمن المفهوم الأكثري المعتاد، بدل العمل بدأب على حق عودة المهجرين وضمان أمنهم في أماكنهم الأصلية.
ومثلما ينكر النظام وحلفاؤه قيامهم بالتهجير الطائفي الممنهج، يقلل الطرف المتضرر من تأثيره، تحت وهم الميزان العددي السابق على الحرب، وفي التقليل إنكار لتغيير مستدام يقتضي النظر إلى الواقع كما آل إليه، والنظر إلى المستقبل ضمن احتمال عدم العودة عن التغييرات الحالية، أو معظمها.
على رغم كل ما يُقال عن تأسيس سورية بموجب اتفاق سايكس- بيكو، فإن تأسيسها المجتمعي الفعلي أتى على أرضية خطاب التحرر من فرنسا. وكما هو معلوم لم تُختبر مسألة الحرية وتوأمها الوطني سوى خلال عقد ونصف عقد قبل انقلاب “البعث”، من دون أن تسلم هذه المدة من الانقطاعات. ولكن على رغم الاستبداد المديد للعهد الأسدي، استمر النظر إليه كطارئ سيأفل يوماً، بلا تأثيرات جوهرية على الوطن السوري. اليوم يمكن القول إن الفعل التوحيدي لخطاب التحرر انتهى إلى غير رجعة، بعدما أصبح الوجود الأجنبي شرطاً من شروط وجود قسم من السوريين، وفق مخاوف هذا القسم المعلنة.
أيضاً، لا أمل بأن يتوحد السوريون على خطاب الحرية في أي أمد منظور، لتراجع الأخير عموماً، ولأن الأطراف المتضررة من تبعاته حسمت خياراتها إلى الحد الأقصى من العنف. لا يخفى بالطبع أن الحدود لم تعد تعبّر عن أدنى اجتماع في داخلها، وأن وظيفتها الحالية تكاد أن تنحصر في منع أي اجتماع عابر لها، غير مرغوب فيه، لا يغير من ذلك السماح بتدفق العنف إلى سورية ومنع التدفق المعاكس. مثال “حزب الله” فاقع الدلالة، بترافقه مع التفاهم الدولي على حماية لبنان من آثار الصراع المجاور. فالحماية تعني هنا بالضبط منع تشكل جبهة مشتركة بين سوريين ولبنانيين متضررين من السياسات نفسها، وتعني حماية النفوذ الإيراني في لبنان بينما يخوض معركته الضارية في سورية.
ربما تكون إحدى أهم المشاكل الآن هي التقسيم وامتناعه معاً، مع غياب أي عقد اجتماعي سابق أو لاحق. قسمة السوريين هي الأسوأ بين نظيرتيها العراقية واللبنانية: فلبنان تأسس على مفهوم عام من الحرية يصعب تجاوزه، على رغم انقضاض إيران على مؤسساته وتوازناته الطائفية. والعراق، على رغم كثرة ما قيل عن فشل التغيير، لا تُقارن فيه السياسات الأميركية التي أعقبت إطاحة صدام بقصف طائرات بوتين المدنيين السوريين. المؤسف أن هذه القسمة السورية مستمرة، تحديداً بسبب ما كان يُعدّ من عوامل الاستقرار، أي بسبب تلك الأكثرية المذهبية الضخمة عددياً.
الحياة