هو أكثر من رسالة، كما اعتبرت غالبية التعليقات على عرض «حزب الله» العسكري في بلدة القصير على الحدود اللبنانية – السورية، وكما قال أيضاً نائب الأمين العام لـ»حزب الله» الشيخ نعيم قاسم. إنه البلاغ الرقم 1، كما في البلاغات التي يصدرها عادةً الانقلابيون في بلدان العالم الثالث، عن تسلم السلطة بالقوة المسلحة، أو أقله التوجه لتسلمها، لكن بالنسبة الى «حزب الله» في بلدين اثنين في وقت واحد هما سورية ولبنان. وكالعادة أيضاً، فالهدف هو الدفاع عن البلدين في مواجهة العدوانية الإسرائيلية، كما حرص إعلام الحزب على القول، من دون أن تكون له (لإيران، في الواقع) رغبة في إعلان احتلالهما رسمياً أو حكمهما باسم «الولي الفقيه».
والبلاغ الرقم 1 هذا من كلمة واحدة لا غير: نحن هنا!.
لماذا؟ في التوقيت أولاً، لا بد من ملاحظة أن ما قامت به ميليشيا «حزب الله» في هذه البلدة السورية تم بعد حدثين اثنين: أولهما، إعلان إيران رسمياً أن لديها مصانع صواريخ باليستية في سورية والعراق، وفي غيرهما أيضاً، وما يعنيه هذا الإعلان من «رسالة» قوة الى العالم، بخاصة الى الإدارة الأميركية المقبلة التي لمحت الى إمكان إلغاء الاتفاق النووي بينها وبين طهران. وثانيهما، الحديث عن مرحلة جديدة في لبنان بعد انتخاب رئيس للجمهورية والتوجه لتشكيل حكومة تعيد البلد الى سوية سياسية واقتصادية/اجتماعية، بعد فترة من الفراغ على كل المستويات استمرت لعامين ونصف العام، وكان الحزب وحلفاؤه وحدهم وراءها.
ولأن الحزب، ثانياً، لم يقم بمثل هذا الاستعراض قبل الآن، لا في معقله في الضاحية الجنوبية لبيروت ولا في أي مكان آخر من لبنان، فضلاً عن إعلان امتلاكه هذه النوعية من الأعتدة العسكرية الثقيلة (دبابات وناقلات جند وراجمات وصواريخ محمولة)، فلا يمكن إلا أن يكون التوقيت ذا معنى خاص، لا سيما عشية ما تروجه موسكو ودمشق وطهران معاً عن التوجه لاستعادة كامل التراب السوري بدءاً من حلب في المرحلة المقبلة. ولا يقل هذا المعنى عن إبلاغ العالم، والمنطقة خصوصاً، بأن سورية الغد، كما لبنان الغد، هما سورية ولبنان الإيرانيان أولاً وأخيراً، ليس في السياسة وعلى صعيد ما يسمى «محور المقاومة والممانعة» وحدهما، إنما على الأرض وبأداة «حزب الله» و «الحرس الثوري الإيراني» أيضاً.
أكثر من هذا، فإمعاناً في «التقية» السياسية التي يتقنها الحزب، لم يفعل في العرض العسكري سوى أنه سرّب شريطاً مصوراً عن بعض جوانب القوة فيه، في الوقت الذي كان يبدي «مرونة» فائقة تجاه تشكيل الحكومة برئاسة أحد ألد خصومه (سعد الحريري) في لبنان. وعندما تحدث نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم وعدد من مسؤوليه وإعلامه لاحقاً عن العرض، وضعوه تحت عنوان أنه موجه ضد إسرائيل من دون غيرها، تماماً كما فعلوا (حتى الآن على الأقل) لجهة الظهور بمظهر من لا يعنيه أمر كلام رئيس الجمهورية ميشال عون عن تحييد لبنان عن حروب المنطقة ومشكلاتها، ولا كلام الحريري عن اعتبار قتال الحزب في سورية خرقاً لاتفاق الطائف والدستور. وإذا كانت هذه هي السياسة الإيرانية نفسها، التي زعمت دائماً أنها لا تريد إنتاج سلاح حربي من برنامجها النووي لكنها عملت سراً وبإصرار من أجله، كما أنكرت تدخلاتها في بلدان المنطقة لكنها غالباً ما وصفت ما يجري فيها بـ «انتصارات» لها، فلا يجوز النظر الى ممارسات الحزب هذه إلا من زاوية أنها نسخة من الأصل الإيراني.
إنها سياسة التسلل ببطء، ثم محاولة فرض وقائع على الأرض، حيث يمكن التسلل من ناحية وفرض الوقائع من ناحية ثانية.
لكن ما يبقى هو السؤال: الى أين من هنا؟
لا مبالغة في القول أن عرض القصير جزء من إعلان إيراني عن تحول سورية مستعمرة، أو «مستوطنة فارسية»، وأن يعقبه في وقت لاحق إعلان سوري بـ «قوننة» هذا التحول، بالطريقة التي تم فيها تشريع القواعد العسكرية الروسية، باقتطاع أراض لها في طرطوس وحميميم، وتوفير «حصانة» ضد الملاحقة القضائية من أية جهة داخلية أو خارجية. ولعل حضور ضابط رفيع من قوات بشار الأسد هذا العرض، وتعمده في أثنائه أداء التحية العسكرية لمن سماه «قائد المقاومة» السيد حسن نصرالله، يشكلان إشارة ذات دلالة الى هذا الأمر.
وأن يتم ذلك بينما تتحدث موسكو ودمشق وطهران عن قرب اقتحام حلب وطرد المسلحين منها، وتالياً بدء ما تسميه «تسوية سياسية» مع المعارضة، فللأمر دلالة أخرى مؤداها تشريع وجود ميليشيا «حزب الله» (الجندي في جيش «الولي الفقيه») داخل الأراضي السورية… وإن تحت لافتة أنه وجود موقت، وصديق، وغير دائم، ويمكن في أي وقت التفاوض على إنهائه.
وأن يكون مسرح العملية بلدة القصير الحدودية مع لبنان، فلذلك معناه اللبناني أيضاً، لا سيما بعد أن تحولت هذه الحدود أراضي سائبة بالكامل منذ دخلت قوات «حزب الله» الى سورية في 2013.
هذا على الجانب السوري (عفواً، الجانب الإيراني في سورية) من معاني استعراض «حزب الله» العسكري. أما على الجانب اللبناني، فليس خافياً أن ارتداداته لن تقف عند حد، إن لم يكن الآن ففي وقت ليس ببعيد.
ذلك أن أدبيات الحزب، الذي يفترض أنه حزب لبناني، تقول أنه لبناني فعلاً لكنه في الآن ذاته «قوة إقليمية» ذات وزن في ميزان القوى في المنطقة أيضاً. كيف يمكن التوفيق بين الأمرين، فيما الحزب جزء من التركيبة السياسية في لبنان من جهة، وهو على قائمة المنظمات الإرهابية في الكثير من دول المنطقة ودول العالم؟
وبعد عرض القصير هذا تحديداً، نقل عن نائب الأمين العام للحزب نعيم قاسم قوله أن الحزب بات «أكثر من مقاومة لكن أقل من جيش»، وأنه «أصبح لدينا جيش، وما جرى هو رسالة للجميع»… لكن إعلام الحزب سارع الى التبرؤ من هذا الكلام، بل حتى نفيه من أساسه. إذ كيف لحزب سياسي في دولة معترف بها دولياً، أن ينشئ جيشاً كامل التسليح من ناحية، وأن يقاتل خارج حدود دولته ويكون له وزن إقليمي من ناحية ثانية؟
لذلك كله، هل يعني عرض «حزب الله» هذا غير أنه البلاغ الرقم 1 فعلا؟
الحياة – محمد مشموشي