خديجة امرأة قروية، لاتجيد القراءة والكتابة، ولأن الإحساس بالظلم والاضطهاد لا يحتاج إلى فزلكات وثقافات، فقد كانت تحس بالغبن من كل الرجال حولها، وأولهم زوجها، لكن فطرتها السليمة لم تكن تسمح لها بالتعرض له أمام الآخرين بشكل مباشر، وغالباً ما كانت تلجأ إلى التعميم وتتحدث عن غطرسة الرجال وظلمهم واضطهادهم للنساء.
طفلتها البكر “حلا” ذات الأربع سنين كانت أنيقة ونظيفة ومرتبة بشكل ملحوظ عن أطفال تلك القرية الفقيرة، والأهم أن “حلا” مهذبة كانت ذات نباهة وذكاء يفوق أترابها من الأطفال بما فيهم الذكور، تحفظ بعض الأناشيد، ترددها دون خجل، واثقةً بنفسها، ترحب بالضيوف كما الكبار، تروي الكثير من القصص بتفاصيل دقيقة، وأجمل ما فيها أنها كانت تبادرك بالتحية أينما التقتك.
بدت حالتها مثيرةً لكل من حولها من الرجال وبعض النساء بما فيهم أقرباؤها، وراح البعض يدفع الأمور إلى الأمام، ويرى “حلا” صبية ناضجة ومداركها ووعيها يتفوق على الكثير من الرجال ويردف بعدها، حينها من الصعب السيطرة عليها وقد تسبب الكثير من المتاعب لأهلها ولعشيرتها وكل من حولها الذين راحوا يفكرون بطريقة تمكنهم من ترويضها من الآن لكي لا تسبب لهم أي متاعب مستقبلاً، إلى أن نصحهم أحد رجال القرية أنهم إذا كانوا فعلاً جادين بترويض “حلا” من الآن، فما عليهم إلا أن يربطوها بحبل، ثم ينزلونها في بئر ليس المهم أن يكون به ماء أم لا، المهم أن يتم إنزالها إلى عمق معين، بحيث يغشاها الظلام وتشعر بالخوف الشديد، وحينها لا بد أن يحد الخوف من (فتاحتها)، وتصبح مسكينة وهادئة وتبقى على هذه الحالة حتى بعد أن تشب وتكبر وتصبح شابة.
بعد كثير من الأخذ والرد بين والدها وإخوته وأبناء العمومة، أقر أغلبية الرجال على تنفيذ الخطة، مع مخالفة البعض القليل ووقوف الأقل على الحياد ومنهم والدها، الذي حتى وإن لم يكن راضياً في قرارة نفسه، لكن الأعراف والعادات لا تخوله الاعتراض على من يكبره سناً من الأخوة والأقارب، إضافة إلى كونه ضعيف الشخصية إلى حد ما وغير صاحب قرار.
النساء المقربات أغلبهن ضد الفكرة لكن عادات القبيلة لا تكترث لآراء النساء.
خديجة والدتها رفضت الفكرة وبشدة جملةً وتفصيلاً، ولكي تجعل زوجها يقف إلى جانبها ويرفض الفكرة، هددته بأنها ستلقي بنفسها في ذات البئر، وقام أحد أعمام حلا بالطلب منها أن تصعد معه على دراجته النارية، مدعياً أنه ذاهب إلى السمان وأنه سيشتري لها ما تريد، ولأن إحساس الأم يبقى الأصدق فقد حاولت أن تمنع حلا من الذهاب مع عمها، لكنه زجرها بقوة وكذلك زوجها الذي أمسك بيدها وجرها بقوة إلى داخل الغرفة، حيث سقطت أرضاً وأجهشت ببكاء مر، وزوجها يقف بالباب مضطرباً ومتوتراً.
هنالك عند البئر كان رهطاً من الرجال بالانتظار، حزم الرجال حلا من تحت إبطيها بحبل أعد مسبقا لهذه الغاية، أدركت حلا أن شيئاً ما يدبر لها، بدأت بالصراخ والبكاء، استنجدت بأمها .. بوالدها .. بأعمامها، لكن ما من مجيب، كانت قد غدت أسفل فوهة البئر بقليل، ازداد بكاؤها وصراخها أكثر، أنزلها الرجال في البئر أكثر، كانت حرقة بكائها وقوة صراخها تتناسب طرداً مع اقترابها من ماء البئر، لكنها توقفت فجأةً ولم يعد يسمع لها أي صوت، ظن الرجال أن حلا قد فارقت الدنيا وراح يصرخ بعضهم ببعض أن أخروجها بسرعة.
أمسك أحدهم بيدها وأوقفها جانب البئر كانت دموعها لا تزال تغادر عيونها بغزارةٍ، لكن بصمت ودون أدنى صوت، كلمها عمها، لم تجب، أعاد السؤال، لكن لا جواب.
قال أحد الرجال أنه من الطبيعي أن تفقد حلا النطق من الخوف، لكنها حالةً مؤقتةً وستزول بعد أيام، كان والد حلا لايزال يروح ويجيء أمام المنزل متوتراً، عندما أتاه بها رهط الرجال أمسك بحلا من يدها حاول تهدئتها، حدقت بعينيه بنظرة تحمل قهر كل نساء الأرض من رجالها من يوم أن غادرن رحم أمهاتهن إلى يوم أن يعدن إلى رحم الأرض، بعدها شاحت عن وجهه وأمالت برأسها للأسفل نحو الأرض، حاول جاهداً أن يكلمها أن ينظر إليها، أن يُفلح في أن تنظر إليه، لكنها كانت دائما تشيح بنظرها عنه وعن رهط الرجال، وما إن دخلت حتى أسرعت إلى حضن أمها ودموعها في ازدياد، ضمتها أمها وراحت تقبلها، امتزجت دموعهما وتاريخ قهر يجدد ألم العصور، طلب زوجها أن تدثرها لتغفو قليلاً ويغادرها خوفها حينها ستنسى ما جرى لها، لم تجب أمها بكلمة، لكنها نظرت إليه بنظرةٍ حملتها ذات الايحاء الذي أوحت به عيون طفلتها، دثرتها، غفت حلا وجلست أمها جانبها تبكي قهر رجال القبائل للنساء.
المصدر: جريدة زيتون