يبدو أن القرار الروسي بسحب بعض القطع الحربية من مياه المتوسط قبالة السواحل السورية, هي عبارة عن رسائل متعددة الاتجاهات؛ حيث باشرت روسيا، على لسان وزير خارجيتها، بتنفيذ قرار الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” بتخفيض تواجد القوات الروسية في البحر المتوسط, والبداية من سحب حاملة الطائرات الروسية الشهيرة “الأميرال كوزنيتسوف” والطراد المركزي الرئيسي “بطرس الأكبر”, وبعض القطع البحرية الصغيرة المنتشرة قبالة السواحل السورية على المتوسط, التي كان لها دور بارز في شن بعض الهجمات ضد قوات المعارضة السورية في أكثر من جبهة.
البداية كانت عندما أعلنت القيادة الروسية عن البدء بشن ضربات جوية انطلاقا من قاعدة “حميميم” السورية ضد مواقع للمعارضة السورية المسلحة في مختلف أنحاء البلاد بتاريخ 30 سبتمبر من العام 2015, ووفقا للاستخبارات الأمريكية وصل عديد الجنود الروس في سورية إلى نحو 4500 جندي.
الادعاء الروسي بتخفيض التواجد العسكري في سورية هو ليس الأول من نوعه: فقد سبق للرئيس الروسي أن أعلن عن سحب ما يقارب ثلث حجم القوة العسكرية الروسية والمتمثلة ب18 طائرة حربية مقاتلة من طراز سوخوي34 وإعادتها إلى روسيا في شهر مارس الماضي, ولكن النتيجة لم تكن كما توقعها المراقبون, حيث استمرت الحملة العسكرية الروسية الشرسة على الأراضي السورية, وكان لها الدور الأكبر في إنهاء تواجد مقاتلي المعارضة داخل حلب, بالرغم من ذلك كان هذا الأمر متوقعا بعد أن صرح الرئيس الروسي عقب ذلك بالقول: “روسيا تستطيع العودة إلى سورية خلال ساعات, وأنا أعي ما أقول”.
إذن القرار الروسي بالسحب الجزئي لعديد القوات العسكرية الروسية في سورية يتكرر من جديد, وبين القرار الأول والثاني تنحصر العديد من المعطيات والمستجدات على الأرض, إضافة إلى تغيرات كبيرة في الآونة الأخيرة على صعيد المناخ السياسي والعسكري جعلت العديد من المراقبين يقفون بجدية عند هذا القرار الأخير, فما الذي تغيّر؟
يبدو أن سياق هذا القرار الروسي مختلف، إلى حد ما، عن سياق القرار السابق في عدد من الحيثيات حتى الآن, فبعد أن وصلت روسيا إلى قمة ما رسمت لنفسها من مخططات في سورية, واعتبرت ما نفذته حتى الآن هو بمثابة إنجاز عسكري شاق واجه العديد من التحديات والعوائق الصعبة, عدلت روسيا من موقفها وأرادت أن تصنع لنفسها نصرا سياسيا رديفا, سيما بعد تضرر العديد من الجهات داخل روسيا جراء السياسة الروسية المشاركة في الحرب على الأراضي السورية, وخصوصا الجهة الاقتصادية التي كانت تعاني العديد من المشاكل أصلا.
لذلك وجدت روسيا نفسها في نقطة باتت حرجة للغاية وقد تنزلق بها نحو هاوية غير منتهية جراء الحرب المستمرة, لذلك بدأت بالترويج لمسألة وقف شامل لإطلاق النار في سورية, بالشكل الذي لم يعجب كل من إيران والنظام على حد سواء كما يعتقد العديد من الخبراء السياسيين, فأتبعت روسيا هذه الرغبة بقرار جدي بسحب جزء من عتادها العسكري البحري قبالة السواحل السورية, فيما يشبه رسالة مركبة ومتعددة المقاصد, ومنها إعلان روسيا بشكل أو بآخر أنها تستطيع رفع يدها عن حماية النظام والمشروع الإيراني في أي لحظة, إن لم يلتزما برغبة موسكو الجديدة بإنهاء الحرب الدائرة في سورية, إلا أن أبعاد هذه الخطوة أو الرسالة الروسية إن صح القول ليست واضحة بالشكل المطلوب حتى الآن.
وهناك من يرى أن روسيا تشعر بالراحة التامة اليوم بعد أن حققت إنجازا عسكريا على الأرض, وباتت تشكّل عوامل ضغط أخرى على جميع الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية, وخصوصا الإقليمية منها, بحيث تنقل المعركة بشكل كامل من الشق العسكري إلى الشق السياسي, لذلك جاءت هذه الخطوة كقرار تكتيكي بحت لدعم إعلان موسكو ولقاء الأستانة القادم والذي تحاول روسيا إنجاحه لإتمام إنجازها العسكري على الأرض.
وقد يكون هذا القرار هو عبارة عن إظهار روسيا لنفسها أنها تستطيع ضبط إيقاع الخروقات المتكررة من قبل النظام السوري والمليشيات الإيرانية لوقف إطلاق النار الذي من خلاله قامت روسيا بتقديم نفسها بصورة الضامن لحلفائها على الأرض, لذلك لعبت روسيا على وتر “التلويح برفع الوصاية العسكرية” كأداة ضاغطة عليهم, أو كآلية جديدة تمكن روسيا من السيطرة على تصرفات تلك المليشيات المنفلتة.
حتى الآن لا ندري مدى الجدية الروسية بتطبيق فعلي لهذا القرار, لكن المعطيات الجديد تؤشر إلى أمور مختلفة في سياقها عن قرار السحب الجزئي الأول, وبالتأكيد الأيام القادمة سوف تضع النوايا الروسية على المحك.
المركز الصحفي السوري- فادي أبو الجود