هوت قيمة العملة السورية بشكل دراماتيكي منذ بداية العام الحالي بخسارة 20 بالمئة من قيمتها، بينما كان العام الماضي هو الأسوأ حيث خسرت 50 بالمئة من قيمتها؛ ولا يزال التراجع مستمراً بنفس الوتيرة المتسارعة، حيث لا قدرة لمصرف سوريا المركزي على التدخل الحقيقي، مع شح العملة الصعبة من المخزون الاحتياطي، والتي كانت 18 مليار دولار في 2011.
أما خسارة الناتج المحلي السوري فقد بلغت خلال سنوات الحرب التسع 266 مليار دولار، فيما 27 بالمئة من المساكن مدمرة على كامل الأرض السورية، حسب الإحصائيات الأممية.
أسباب الانهيار الأخير مرتبطة بحالة عدم الاستقرار في لبنان، مع توسع الاحتجاجات، حيث ليس بمقدور السوريين استعادة أموالهم المحتجزة في المصارف اللبنانية، والبالغة حسب تقديرات 35 مليار دولار؛ هذا يعني اعتمادهم على السوق السورية، ما أدى إلى فقدان العملة الصعبة، حيث كانت التحويلات التجارية تتم عبر المصارف اللبنانية، كما تأتي البضائع عبر الأراضي اللبنانية، مع تشديد الحصار والعقوبات على رجال أعمال سوريين بارزين.
هذا يعني ارتفاعاً مهولاً في أسعار السلع الأساسية، مع نقص واضح فيها، خاصة المشتقات النفطية، وأن نسبة الفقر بلغت 90 بالمئة، فيما 60 بالمئة من الشعب السوري يعيشون تحت خط الفقر المدقع، حسب إحصائيات أممية.
لم يعد الشعب السوري يثق بالعملة الوطنية، فهناك توجه عام لشراء العملات الصعبة، وبالتالي لم تعد البروباغندا الإعلامية عن المؤامرة الكونية، وعن تحسن الليرة، تنفع؛ حيث قوبل تصريح مستشارة الرئيس، بثينة شعبان عن أن “الاقتصاد السوري أقوى بخمسين مرة مما كان عليه في 2011″، بالسخرية من المعارضين والموالين على حدّ السواء.
بدأت احتجاجات مطلبية واسعة في السويداء تحت شعار “بدنا نعيش”، وهناك دعوات لمقاطعة الكثير من السلع نشطت في الساحل، ورغم الخوف من القمع الأمني ومن مصير مشابه لتظاهرات 2011 السلمية، إلا أن درجة الاحتقان الشعبي وصلت إلى حد الغليان، في المدن الصغيرة والأرياف، حيث فرص العمل معدومة، ومتوسط الأجور 60 ألف ليرة (50 دولارا، آخر سعر صرف كان 1200 ليرة).
لا قدرة لداعمي بشار الأسد، روسيا وإيران، على إنقاذ الاقتصاد السوري، بينما يحجم المستثمرون عن ضخ الأموال والبضائع في السوق السورية، مع اقتراب سريان مفعول “قانون سيزر” الذي يعاقب كل من يدعم النظام السوري، أفراداً وشركات.
وكذلك لا رغبة للدول المتدخلة في انهيار النظام كلياً، بل تريد إضعافه، وتحويل سوريا إلى دولة فاشلة يسهل التحكم في مصيرها.
ترغب روسيا في بقاء النظام في المرحلة الحالية؛ مقترحها الأخير حكومة موسعة تشارك فيها بعض شخصيات المعارضة، والسماح للأسد بالترشح لولاية جديدة مدتها أربع سنوات، وفق ما تسرب عن اجتماع القادة الأمنيين، السوريين والأتراك، في موسكو، وقوبل هذا المقترح بالرفض من الجانب السوري.
ما زال النظام السوري يستقوي بالطرف الإيراني أمام الضغوط الروسية، رغم تعمّد فلاديمير بوتين إظهار الأسد تابعا له، خلال زيارته لدمشق الأسبوع قبل الماضي.
وبالتالي ستستفيد موسكو من التراجع الإيراني بعد مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، في زيادة سيطرتها على النظام، رغم خسارتها لدوره البارز على الأرض السورية، في تعبئة المقاتلين، وإشراك عناصر مرتزقة من العراق ولبنان في المعارك الجارية في إدلب.
تسعى روسيا الآن إلى حسم ملف إدلب بالنار؛ فقد فتحت جبهة ريف حلب الجنوبي والغربي، وكثفت القصف الجوي، مع زحف بري من قوات النظام والميليشيات الإيرانية المتمركزة في حلب، هذا إضافة إلى استمرار المعارك جنوب شرقي إدلب، للسيطرة على معرة النعمان وسراقب.
هذا ما تسبب بنزوح جديد من ريف حلب الجنوبي الغربي باتجاه الحدود التركية؛ وفي الأصل نزح من إدلب 350 ألف مدني معظمهم من الأطفال والنساء، منذ أوائل ديسمبر الماضي، حسب إحصائيات الأمم المتحدة.
ورغم الخلافات الروسية التركية في إدلب، والخلافات الأكبر في الملف الليبي، حيث تريد روسيا السيطرة على ليبيا عبر دعم المشير خليفة حفتر، لكن روسيا تقترب أكثر من فرض أجندتها في إدلب، بفتح الطريق الدولي حلب – دمشق؛ ولكنها قلقة في نفس الوقت في ما يخص ترتيب وضع شرق الفرات، مع إرسال واشنطن تعزيزات إلى قواعدها؛ حيث بدورها أرسلت روسيا رتلا عسكريا جديدا من منبج إلى القامشلي، عبر عين عيسى والدرباسية، في خطوة لتعزيز مناطق النفوذ الجديدة شرق الفرات.
بينما تهدد واشنطن روسيا والنظام، بالعقوبات والتضييق الدبلوماسي، إذا استمر التصعيد في إدلب، مع سخرية من زيارة بوتين لدمشق، وإظهار أن الوضع السوري بخير.
روسيا تريد السيطرة على كل سوريا، وأن تبدأ عجلة إعادة الإعمار، وهي المرتبطة بحل سياسي للأزمة السورية. حاولت روسيا تقديم حلولها، عبر مؤتمر سوتشي للحوار الوطني بداية 2018، ومسار اللجنة الدستورية، الذي عطله النظام برفضه أي دور للمعارضة.
وبالتالي من مصلحة موسكو زيادة ضعف النظام، مع انهيار عملته، وتوسع الاحتجاجات، لفرض سيطرتها عليه كلياً، مع أملها في تراجع تواجد الميليشيات الإيرانية.
وروسيا غير مهتمة بالوضع المعيشي للسوريين، فهي آتية لجني أرباح احتلالها لسوريا، لكن انطلاق عجلة إعادة الإعمار، وتدفق الأموال إلى سوريا، إذا ما تمّا، قد يوفران بعض فرص العمل، مؤقتاً؛ لكن مشاريع إعادة الإعمار لن تستهدف مشاريع تنموية وإنتاجية يمكن أن تحسن الاقتصاد السوري، ولن تؤمّن فرص عمل مستدامة، بل ستكون مشاريع ريعية تصب أرباحها في جيوب المستثمرين، فيما ستتراكم ديون خزينة الدولة، التي على المواطنين سدادها، عبر إجراءات التقشف.
قد ينفجر الوضع الشعبي الداخلي في سوريا، ضمن محيط متفجر لنفس الأسباب، في لبنان والعراق وإيران، وهذا الانفجار إذا توسع سيغير قواعد اللعبة الروسية، حيث ستكون موسكو مهددة بالطرد بوصفها محتلاً رئيسياً لسوريا، إضافة إلى طهران وواشنطن وأنقرة.
نقلا عن صحيفة العرب _ للكاتبة ؛ رانيا مصطفى