لا يوجد عدو ثابت ولا صديق ثابت في عالم السياسة وإنما مصالح ثابتة. إذن فلا غرابة في التحولات التي تحدث في العلاقات الدولية سواء كانت متدرجة أو كاملة ومفاجئة، فما الذي حرك هذه الاستدارة في العلاقات التركية الإيرانية بعد التوتر والتصعيد لا إلى الهدوء فحسب وإنما إلى الدعوات المتبادلة للتعاون إلى جانب الزيارات التي استهلها محمد جواد ظريف إلى أنقرة يوم الثامن من شهر حزيران/ يونيو الماضي، أي بعد ثلاثة أيام من بدء حصار قطر ولعل هذه المسألة هي إحدى محركات الزيارة التي وصفت إعلاميًا بأنها مفاجئة وكانت جلسات هذه الزيارة مغلقة على الإعلام ورشح عنها الدعوة للتحضير إلى مجلس تعاون مشترك، ولم يتوقف الأمر عند زيارة وزير الخارجية ولكن تبع ذلك زيارة رئيس هيئة الأركان الإيرانية محمد باقري لأنقرة وهي أول زيارة من نوعها لمسؤول عسكري إيراني بهذا المستوى لتركيا منذ العام 1979.
ومع مضينا في تحليل حالة التقارب التركي الإيراني نستحضر في الذهن حضور البعد الأمني بقوة كمحددٍ بارز من محددات السياسة الخارجية التركية، بالتالي في علاقاتها الدولية ومن ضمنها العلاقة مع إيران فقد انخراط الجانبان التركي والإيراني تاريخياً في تحالفات وتكتلات إقليمية ذات طابع عسكري في المقام الأول، فقد انضمت كل من تركيا وإيران إلى حلف “سعد أباد” عام 1937 لتطويق ومحاصرة الشيوعية ومواجهة خطرها ثم حلف بغداد عام 1955 أيضاً لمواجهة المد الشيوعي في الشرق الأوسط، وكذلك منظمة الميثاق المركزي (CENTO) التي جاءت بعد انهيار حلف بغداد ولتحقيق الغاية ذاتها، وعلى ذلك فإن هذه الاستدارة في العلاقات التركية الإيرانية لها ما يبررها بقوة خاصة فيما يتعلق بالشعور بالخطر المشترك نتيجة تزايد الدعم الغربي والأمريكي للأكراد بالإضافة إلى الاستفتاء المزمع إجراؤه في إقليم شمال العراق والذي ربما يقود إلى إعلان استقلال من جانب الإقليم. ويتزامن هذا الأمر مع المساعي الانفصالية لأكراد سوريا نتيجة الأزمة السورية وما ترتب عليها من ضعف سيطرة الدولة المركزية، وتعززت هذه المساعي بالدعم العسكري الكبير المقدم من الولايات المتحدة الأمريكية وأطراف غربية أخرى، وهذا الأمر له تداعيات خطيرة على الأمن القومي لكل من تركيا وإيران لأن تركيا وإيران يسكنهما ملايين الأكراد ضمن منطقة جغرافية متجاورة.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يتسبب فيها ملف الأكراد بتحسين العلاقات التركية الإيرانية، فقد قاد الانفتاح الكبير من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على أكراد العراق منذ العام 2001 لضمان مساندتهم لها في أي عمل عسكري أمريكي محتمل ضد العراق في ذلك الحين، وهذا الأمر أثار حساسية الجانب التركي نتيجة المخاوف من قيام دولة كردية شمال العراق، مما دفع الأتراك للتقدم باتجاه إيران التي لها حساسية مشابهة إزاء هذه المسألة، وترتب على ذلك شيء من التنسيق العسكري بين الجانبين التركي والإيراني حيال تصاعد عمليات الحركات الكردية الانفصالية ضد البلدين انطلاقًا من شمال العراق، ووصل الأمر إلى تنفيذ عمليات عسكرية مشتركة ضد الأكراد.
لكن هل يلغي هذا الأمر التناقضات القائمة بين البلدين؟ بالتأكيد لا، ولكن سيخفض حدة التوتر بخصوصها إلى أدنى درجة ممكنة وسيرفع مستوى التعاون إلى درجات كبيرة وربما غير مسبوقة قد تصل إلى شن عمليات عسكرية ضد الأكراد في سوريا والعراق والتفاهم على ترتيبات تمكن تركيا من شن عمليات تستهدف الخطوط الخلفية لحزب العمال الكردستاني التركي وقواعده، وكذلك ضد قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي تعده تركيا الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني التركي، وقد يدرج الجانبان هذه العمليات ضمن الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب إذ تصنف تركيا هذه المنظمات الكردية الانفصالية كمنظمات إرهابية.
ومع أن موضوع قيام دولة كردية في سوريا أو في العراق يعتبر خطراً كبيراً على الأمن القومي لكل من تركيا وإيران لما سيترتب عليه من تنامي النزعة الانفصالية لدى ملايين الأكراد الذين يعيشون في البلدين، إلا أن هذا التقارب ما يزال ضمن المجال التكتيكي لا الاستراتيجي، وفي حال تنبهت الولايات المتحدة إلى خطورة نشوء حلف استراتيجي بين تركيا وإيران بصورة تهدد مصالحها الحيوية فإنها ستدفع بكل قوة للحيلولة دون قيام مثل هذا التحالف، وعليها في هذه الحالة أن تمنع أكراد العراق من إجراء استفتائهم المزمع إجراؤه بشان إعلان استقلال الإقليم أو على الأقل تأجيله.
كما يمكن أن يؤدي التقارب التركي الإيراني إلى انعكاسات إيجابية على مختلف الملفات في المنطقة كالأزمة السورية والقضية الفلسطينية، كما أن من شأنه خفض وتيرة الشحن الطائفي فيها، ولذلك على صناع القرار في كلا البلدين التنبه لأهمية الدور الذي يلعبه الآخر ومن ثم السعي للتفاهم مع كل الفاعلين والمؤثرين لإعادة الأمن والاستقرار إلى المنطقة على قاعدة التعاون في المشترك وتجنب الصدام في المتضاد والكف عن سياسة التهميش والاستئثار لأي طرف كان لتحقيق مصالح الشعوب وتحقيق الأمن والاستقرار والسلام لها. وهذا أمر لا يخفى بالتأكيد على صناع القرار ولكنه يستوجب توفر الإرادة السياسية لتحقيقه وبناء حالة من الثقة التي توصل إلى النتائج المرجوة.
بكر محمد البدور – ترك برس