في روايتها الشهيرة «الدفتر الكبير»، خَلَقَت الكاتبة الهنغارية «1935-2011» أغوتا كريستوف عالما خاصا: العالم الذي يمضي إلى حتفه، يرسم ملامحه طفلان توأمان وعجوزان يفرضان قواعد عيش غير معلنة، من دون خوف أو إحساس بالعار. من دون تخاذل أو ضعف. إنهم غير إنسانيّين، لكنهم على الأقل يحملون تلك الشرارات التي تجعل الإنسان يقاوم الرعب والاضطهاد.
في كتاب «الأميّة» الذي يروي حياة أغوتا كريستوف، بصوتها معظم الأحيان، والصادر حديثا عن دار الجمل، بيروت ـــ ترجمه محمد آيت حنّا، نطلع على رحلة صعبة قطعتها الكاتبة بين عالمين، الشرق الحميم والغرب السياسي. في قرية نيوشاتل السويسرية حيث المنفى الذي قُدّر لأغوتا العيش فيه حتى آخر أيامها، منذ ذلك اليوم الذي قطعت فيه الحدود الهنغارية ـــ السويسرية، مشياً على الأقدام مع طفلتها الرضيعة وزوجها وهي في سن العشرين. كانت قد بدأت مشوارها ككاتبة هنغارية اقتصرت نتاجاتها على بضع قصائد كتبتها باللغة المجرية، تركتها خلفها، مثلما تركت انتماءها العرقي واللغوي. وفي سويسرا سلّمها اللجوء إلى العمل في مصانع الساعات، وإلى قساوة النظام السويسري وغرابة اللغة الفرنسية. لقد ألفت نفسها مجدداً في وضع المرأة الأمية، هي التي كانت قد صارت تحسن القراءة في سنّ الرابعة. كان عليها إذن أن تتعلم اللغة على كبر، أن تبدأ دروس محو الأمية.
معظم ما يمكن أن نطلع عليه في سيرتها، سيحيلنا مباشرة على روايتها الأشهر «الدفتر الكبير»، حيث توأمان يدونان أهوال الحرب ويتعلمان معها تهجئة الحياة ومجابهتها بالقسوة اللازمة للبقاء، وفي نفس الوقت يتعلمان الكتابة والقراءة. ثمة كتابة مزدوجة في الرواية إذن، أغوتا تكتب الرواية وتتمرّن فيها على اللغة الفرنسية وفي الوقت نفسه بطلا عملها يتعلمان الحياة والكتابة والتعامل مع الكلمات. هذان المستويان من الكتابة، إذن بالإمكان أن نسمّيهما تجاوزاً، المستوى الفوقي والمستوى التحتي، سيرافقان مسارها السردي في مجمله.
يسجل التوأمان تلك الحكاية الفظيعة. لقد تُركا إلى العجوز القاسية والشتاء والجوع والحرب، تماما كما حدث مع أغوتا في طفولتها يوم تُركت لمصيرها مع شقيقها يانو. فعملا على تشكيل وجود خاص بهما: لقد تعلما أن التمرّد لا يجدي نفعاً، وأن من الجيد إطعام الحيوانات وسقي الحديقة وجني الثمار، وتقطيع الخشب، وتحميله على العربة، وأن يقوما بكل الأمور الضرورية.
وحشان يتابعان الكبار، ويترصدان مظاهر ضعفهم، حبّهم للفضائح، وخداعهم. يتعلمان عدم قول الحقيقة حينما لا يكون ثمة نفع من قولها. يتعلمان كيف يصمدان أمام تحقيقات الشرطة، وكيف يستعملان الناس كـ «أشياء لا غنى عنها».
«سيّان» هو العنوان الذي اختارته، أغوتا، لآخر أعمالها، المجموعة القصصية التي توضّح ضمنا موقفها من الحياة والكتابة، موقف يساوي بين الاحتمالات: لن يكون المرء سعيداً في بلد يضطهد حريّته، لكنّ سعادته غير مضمونة في بلد آخر. ما الفرق إذن بين الإقامة والرحيل؟
التشاؤم كامن في أعمالها، والقسوة حتمية والعزلة مدوّخة. أغوتا تعترف في إحدى إجاباتها المقتضبة في حوار صحافي أنها «عدمية»، لكنها تضيف قائلة: «ليس لديّ أدنى رغبة في الموت. أجد الحياة قصيرة جداً. بعد الحياة سنكون ميّتين طيلة الوقت. بإمكاننا إذن أن ننتظر حتى يصل وقت الموت».
أغوتا، بلغت تلك النقطة التي تصفها لدى إحدى شخصيات كتابها «سيّان»، حالة ذلك الرجل الذي كانت سعادته تتلخص في أشياء يسيرة من قبيل: التجول في الشارع، المشي بين الأزقة، الجلوس حين يأخذ به التعب. مع فارق أنها في سنواتها الأخيرة لم تعد قادرة على المشي، عقب عملية جراحية أجرتها لساقيها، فلم تكن تغادر شقتها إلا عندما تكون مضطرة. وأقلعت عن الكتابة خلال السنوات العشر الأخيرة من حياتها، بررت ذلك بقولها: «لا رغبة لديّ في الكتابة. بدأت كتاباً لا يزال ينتظر منذ عشر سنوات. لا رغبة لدي في لمسه، وما زال بعد لم يكتمل».
خلال حياتها، تزوجت مرتين، وصارت بعد ذلك تمقت الزواج: «أنا سعيدة لأني خرجت سالمة من التجربتين، كان الزواج يستحق العناء بالنظر إلى أنّي كسبت منه أطفالي، لكن بالنسبة إلى الأزواج، عندما قدم أخي الأصغر من هنغاريا إلى سويسرا ورأى كيف يعاملني زوجي الثاني قال لي: لم ينفعك في شيء العيش في بلد حرّ».
أيضا تصرح أغوتا: «أحب الرجال كثيراً عندما لا يكونون أزواجاً. بيد أن قصص الحبّ لا تستحق أن يُكتب عنها، إنها تافهة. إنّ كتب الحبّ هي ما أسميه كتب النساء. إنها كتب بلا أهمية تُذكر».
من تلك المزق المتناثرة من حياتها الشريدة، تلك النصوص المتشظية التي جمعتها وأعادت صياغتها، صنعت أغوتا كريستوف، رواياتها.
لينا هويان الحسن/السفير