خمس سنوات من الحرب وأكثر كانت كفيلة بقلب الموازين في سوريا وتغيير مجريات الأحداث لتؤثر بشكل سلبي على حياة السوريين الاجتماعية، فكم من أمهات فقدن فلذات أكبادهن، وأطفال باتوا يتامى بعد أن حرمتهم الحرب من ذويهم، وآخرون اختاروا اللجوء والهرب بعيدا باتجاه مكان آمن، لتكون حياتهم الاجتماعية مقتصرة على مواقع التواصل الاجتماعي.
“روان” ابنة الرابعة عشر من العمر من ريف ادلب، فرضت عليها الحرب لعب دور الأم والأب والأخت لثلاث إخوة بعد أن حرمهم النظام بصواريخه الغادرة من حنان الأم وعطف الأب، فألقي على كاهلها تحمل مسؤولية رعايتهم باعتبارها الأخت الكبرى لتضيع براءة طفولتها ولتكبر قبل أوانها وتضاف لقائمة “الأمهات الصغار”.
بعد استشهاد والديها تولى عمها رعايتهم والإشراف على تربيتهم بحكم أنهم صغار ولا يمكن أن يعيشوا في بيتهم بمفردهم، إلا أن قسوة الحياة لاحقتهم ليستشهد عمهم في مجزرة سوق ادلب عندما كان يحضر بضاعة لدكانه في القرية، فعادت روان وإخوتها ليعيشوا في بيتهم وأجبرت على ترك المدرسة لترعى إخوتها الصغار فأكبرهم في الصف الخامس، والثاني في الصف الأول، والصغير لم يتجاوز الرابعة بعد، رغم أنها كانت متفوقة في دروسها.
وعند كل صباح بعد أن تهتم بلباس إخوتها وتعد لهم “لفات الزيت والزعتر” ويذهبوا لمدارسهم، فتجلس خلف النافذة تراقب أطفال قريتها وهم يحملون حقائبهم ويركضون مسرعين كي لا يتأخروا، وتدمع عيناها ألما وحسرة وتستذكر كيف كانت معلمات مدرستها يكرمنها على الدوام، ويضربن بأخلاقها وتفوقها المثل، تمسح دموعها وتعود لتكمل أعمال المنزل من غسيل وتنظيف وإعداد الطعام قبل عودتهم.
“روان” ليست الطفلة الوحيدة في سوريا التي تركت مقاعد الدراسة لتتولى مهاما لاتتناسب مع عمرها، فحالها كحال كثيرات غيرها تحولت حياتهم الاجتماعية من الطفولة واللعب إلى المسؤولية والأمومة، لتعيش في سجن لايحق لها الخروج منه إلى أن يشاء الله، ولعل التأثيرات السلبية التي قد تلحق بها أشد خطورة من أي حرمان تعيشه، فمصيرها الانطواء على نفسها وانعدام الثقة بالذات وخاصة عندما تقارن نفسها بمثيلاتها من الفتيات اللواتي يتابعن دراستهن على الأقل ويعشن في جو الأسرة.
تتابع أعمال المنزل وتتذكر والدتها كيف كانت تستقبلها عند عودتها من المدرسة ورائحة الطعام تملأ أرجاء المنزل، ووالدها يحضر لها عرائس السكر كونها الفتاة الوحيدة المدللة، لتتحول بعدها لأم صغيرة يجب عليها أن تجيد كل شيء، وتهتم بأخيها الصغير الذي لاينفك عن البكاء وكأنه يعلم أن حجم خسارته كبيرة ولا شيء يعوضه عنها غير مناداة روان “ماما”.
وتستمر الحرب وتزداد معها المعاناة لتخلف حالات قد لاتجدها إلا في سوريا، ومع ذلك مازال الأمل موجودا في قلوب أطفالها البريئة، رغم مايواجهونه يوميا من قتل ودمار وتهجير، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ترى هل ستحرم الحرب هؤلاء الأطفال أمهم الصغيرة من جديد؟.
المركز الصحفي السوري ـ سماح الخالد