عندما كان برنار كوشنير طبيبا شابًا مع منظمة أطباء بلا حدود قال إنه أسس لجنة لمناهضة الإبادة الجماعية في بيافرا أثناء الحرب الأهلية النيجيرية، لأنه “لا يريد تكرار خطأ اللجنة الدولية للصليب الأحمر، في الحرب العالمية الثانية بعدم إدانة معسكرات الإبادة النازية”.
يبدو أن اللجنة الدولية للصليب الأحمر نسيت دروس ماضيها، الذي اعترفت به بنفسها.
في مقاله “حوار مع الماضي”، تحدث فرانسوا بونيون، مدير اللجنة الدولية للقانون الدولي والتعاون السابق، عن فشل الصليب الأحمر في الرد بقوة على اضطهاد الرايخ الثالث لليهود خلال الحرب العالمية الثانية. لا سيما في معسكرات الموت النازية مثل بتيريزينشتات، ماوتهاوزن، بيرغن بيلسن، رافنسبروك، بوخنفالد، أوشفيتز.
هل تحولت مدينة داريا إلى معسكر موت آخر يتجاهله الصليب الأحمر؟ بلغ عدد سكان داريا حوالي 150 ألف نسمة، قبل بدء النظام السوري في إبادتها عام 2011. قتلت قوات الأسد في داريا أكثر 2100 شخص من بينهم 155 طفل و105 امرأة، واعتقلت 4543 بما في ذلك 241 طفل و71 امرأة. تبقى من سكان داريا اليوم حوالي 10 آلاف فقط، يقبعون تحت حصار المدينة المدمرة، التي تبعد 8 كيلومتر عن دمشق، العاصمة السورية، والمكاتب الفاخرة للأمم المتحدة والصليب الأحمر وغيرها من المنظمات الإنسانية.
يعاني المحاصرون في داريا، مثل غيرهم في المناطق التي تحاصرها قوات الأسد، مأساة لا حدود لها. بدأت طريق آلام أهل داريا بالاعتقالات العشوائية والتعذيب والقتل في المعتقل، ثم أمطرت عليهم السماء البراميل المتفجرة، وتعرضوا للقصف الجوي الذي استهدف البنى التحتية الأساسية، والأسواق والمرافق الطبية والتعليمية وكوادرها. ثم بدأ حصار الحل النهائي في الإبادة عام 2012، كجزء من استراتيجية “الركوع أو التجويع” التي قادت أهالي داريا إلى الاستبعاد الاجتماعي ونهب خيراتهم وتجويعهم وإذلالهم. بالإضافة إلى إهمال المجتمع الدولي، والفشل المدوي للوكالات الإنسانية.
طرح بونيون في مقالته عدة أسئلة عن فشل الصليب الأحمر تجاه معسكرات الموت النازية من قبيل: “ألم يسمع الصليب الأحمر بالإبادة الجماعية؟ ما الذي فعله تجاه ذلك؟ هل حاول فعل شيء على الأقل؟ ما الذي كان بإمكانه فعله ولم يقم به لوقف الإبادة الجماعية؟ كيف يواجه ماضيه؟” تطرح هذه الأسئلة ذاتها اليوم، ولكن تجاه داريا هذه المرة.
شهد الأول من حزيران، فصلًا آخرًا في المهزلة التي يخرجها نظام الأسد، ويستخدم فيها وكالات الأمم المتحدة والصليب الأحمر في داريا المحاصرة. بعد الفشل المدوي للوكالات الإنسانية في 12 أيار حين سمحت لها قوات الأسد بالوصول إلى أطراف داريا، ثم رفضت دخول قافلة المساعدات الإنسانية، التي وعد الصليب الأحمر الناس بها، ثم قصفهم الأسد أثناء انتظارهم لقافلة مساعدات الموعودة.
قالت “مجموعة الدعم الدولية لسوريا” في 17 نيسان أثناء اجتماعها في فيينا إنها ستبدأ إنزال جوي للمساعدات، في 1 حزيران، إذا أصرت حكومة الأسد على منع دخول المساعدات ومنع القوافل البرية من الوصول إلى المناطق المحاصرة.
نظرًا إلى أن الأول من حزيران هو الموعد النهائي لسماح حكومة بشار الأسد لقوافل المساعدات البرية بالوصول إلى المناطق المحاصرة. وهو اليوم ذاته التي دخلت فيه قافلة للأمم المتحدة والصليب الأحمر إلى داريا مع المساعدات الإنسانية المزعومة. من الواضح أن توقيت الدخول كان مخططًا في هذا اليوم. ولكن ما هي المساعدات التي دخلت المدينة المحاصرة، وكيف؟
غطى خبر دخول القافلة العناوين الرئيسية لوسائل الإعلام العالمية، اختلفت صياغة العنواين ولكنها جميعا كانت من قبيل: “قافلة المساعدات الإنسانية الأولى منذ عام 2012 تدخل داريا”. كان مصدر الخبر الأمم المتحدة واللجنة الدولية.
نشر الصليب الأحمر في سوريا على حسابه في تويتر: “#عاجل: المساعدات الإنسانية الأولى وصلت إلى أهالي #داريا. دخلنا للتو المدينة مع الأمم المتحدة والهلال الأحمر العربي السوري”. نشر خبر من هذا القبيل دون الإشارة إلى التفصيل الأكثر أهمية وهو عدم وجود طعام أو مساعدات طبية الأكثر ضرورة، من شأنه التغطية على استراتيجية الأسد “الركوع أو التجويع”.
تضمنت التغريدة التي نشرها الصليب الأحمر خبرين: الأول كسر حصار داريا بدخول المساعدات الإنسانية، والثاني أن الصليب الأحمر دخل المدينة المحاصرة. مثل هذه الأخبار تكون مضللة عندما لا تتضمن إشارة إلى أن هذه المساعدات لم تشمل المواد الغذائية، وأن معظم المركبات كانت فارغة تقريبًا.
هل وصلت وكالات الأمم المتحدة والصليب الأحمر إلى درجة من اليأس من تأدية مهامها المفترضة، ولتثبت أنها لا تزال جديرة بمعنى الحروف الأولى من أسمائها، أو أنها تريد أن يذكرها التاريخ أنها دخلت المدينة المحاصرة؟ يميل التاريخ إلى ذكر الأخطاء أكثر من الاحتفاء بما هو واجب الفعل.
سيذكر تسبب هذه الوكالات في قتل وإصابة عدد من المدنيين بينهم أطفال، وأنهم كانوا جزء من مؤامرة نظام الأسد ضد الإنسانية، وأن الأسد شوه الاحرف الاولى من اسمائها، لتصبح “وكالة الأمم المتحدة لبروباجندا الغذاء”، و “اللجنة الدولية لتغطية الجرائم” في سوريا.
لم تفوت المنظمة الدولية للهجرة ومنظمة الصحة العالمية واليونيسيف الفرصة لتسجيل أسمائهم في قائمة المواد المرسلة إلى الناس الذين يتضورون جوعًا.
تصدّر الهلال الأحمر العربي السوري، القافلة التي دخلت داريا. لم يذكرني شعار الهلال الأحمر الذي غطى سياراتهم إلا بتجربتي الخاصة معه. في أيلول 2011، كنت في طريق عودتي إلى مركز مدينة دمشق في حافلة، عندما رأيت حافلة صغيرة للهلال الأحمر العربي السوري، مليئة بالجنود تدخل المطار العسكري في المزة، وهو المكان الذي احتجزت وعذبت فيه بعد ذلك ببضعة أشهر فقط. أتذكر قولي لأصدقائي بنشر هذا الخبر، والحذر من مركبات الهلال الأحمر العربي السوري، فإنها يمكن أن تكون للمخابرات.
كشف فيلم “شركاء في الدم”، الوثائقي الذي أنتجته قناة تلفزيونية مقرها لندن، أن أطباء في الهلال الأحمر العربي السوري يغطون جرائم القتل تحت التعذيب، التي يرتكبها النظام السوري، وهي نفس المنظمة التي قادت قافلة دولية إلى داريا.
نصح برنار كوشنير مرة إحدى الوكالات الإنسانية بالنضال ضد أن تتحول إلى مجرد “بيروقراطية من البؤس والتكنوقراط”. شهد الأول من حزيران عام 2016، تحوّل الأمم المتحدة والصليب الأحمر إلى ما هو أسوأ من ذلك: إلى أداة دعائية وغطاء لنظام الأسد.