منذ بداية الحراك الثوري في سوريا أعلن الروس تمسكهم ببشار الأسد، وليس مهما هنا إن كان ذلك رغبة ببقائه أو باستمرار مصالحهم، ومن نافل القول أن السياسة تحركها المصالح، وروسيا اليوم مصالحها كثيرة بقدر انحدارها دولياً وضعفها اقتصادياً، وهي تعتبر تدخلها في سوريا بوابة لانتشالها من وضعها الحالي، وعنواناً عريضاً يعيدها إلى واجهة الأحداث الدولية لتكون ندّاً للولايات المتحدة الأميركية، وهذا ما ساعدت عليه سياسة واشنطن في فترة ترامب انطلاقاً من ترك روسيا تغرق في الوحل السوري وفي الوقت ذاته تحقق مآرب أمريكا وإسرائيل بفرط عقد الدولة السورية وإنهاكها اقتصادياً من خلال تدمير البنية التحتية.
أما روسيا فإنها تنظر للموضوع من زاوية أخرى فقد تركت نظام الأسد يقتل الشعب ويتصادم عسكرياً مع فصائل الثوار، ورضيت بالتدخل الإيراني ومن معه، لقناعتها بأنهم لن ينهوا الثورة بشكل نهائي، وفي النهاية لا بد من وجودها وبهذا تكون قد تركت الساحة السورية تتهيأ لتدخلها من خلال العجز الإيراني وإنهاك قوى جميع المشتركين فيها، ليكون ذلك الوقت الأنسب لتدخلها المباشر، فهي لا ترغب بحرب طويلة وتجربة أفغانستان لا تزال قريبة منها، لذا فقد تحينت نهاية فترة أوباما في البيت الأبيض ومن بعدها الفترة الانتقالية بينه وبين الرئيس المنتخب ليكون وقت عملها القصير والمفيد، وفعلاً تدخلت في نهاية شهر أيلول من العام 2016 في فترة ضعف نظام الأسد وتراجع إيران وميليشياتها، وفتور همة القوى الأممية في إيجاد حل سياسي للوضع السوري، فتدخلت متذرعة بالحل مستفيدة من وجود بعض الشخصيات السياسية السورية التي تدور في فلكها، وشخصيات أخرى كانت هي قد ظهّرتها ولمّعتها لتكون بدائل قادرة على تسويق الرؤية الروسية كحل يرضي الجميع.
أدوار
كان التدخل الروسي إجرامياً بكل معنى الكلمة فقد أحضرت موسكو البوارج والمدمرات والغواصات إضافة للطيران الحديث لقصف الأحياء المدنية ما أوقع خسائر كبيرة في الأرواح، وخلّف دماراً يصعب وصفه، وقد تجلت همجيتهم باستهداف المشافي وقوافل الإغاثة والمساجد والتجمعات السكنية.
وبالتوازي دخل الروس بشكل مباشر في ملف التفاوض مع القرى والمدن الثائرة المحاصرة، حيث كانت قاعدة حميميم الروسية المرجع الأساسي في موضوع التفاوض، وكانت تلك القاعدة قد عينت مجموعة ضباط ليشرفوا على المفاوضات في كل منطقة، معرّفين عن أنفسهم بأنهم وسطاء بينما كانوا هم أصحاب الكلمة الأخيرة، ولا يغيب عن الذهن أنهم هم من كانوا يصرون على تهجير من لا يرغب بتسوية وضعه مع النظام، إذ كانت شروط المصالحات التي يفرضونها تتضمن تسوية أوضاع الأهالي مع النظام.
لم يكتفِ الروس بدورهم العسكري التدميري بل دخلوا بشكل مباشر في ملف التفاوض مع القرى والمدن السورية المحاصرة، وكانت قاعدة حميميم الروسية المرجع الأساسي في ذلك.
خطان متوازيان
هذا ما فعلته روسيا بعد تدخلها المباشر في سوريا؟ قصف همجي واشتراك عناصرها وخبرائها مع جيش النظام، ومحاولة فرض الهدن والمصالحات على المناطق الثائرة.
لقد كانت الحاجة إلى استثمار الزمن بادية في تحركات الروس، فهم يريدون تثبيت نقاط لا يمكن التراجع عنها إلا بثمن، رغبةً منهم بأن يكون الرد على جهودهم هو: “شكراً”، ليس ذلك وحسب بل أرادوا ثمناً لكل صاروخ وقذيفة يطلقونها على السوريين، ليقتلوهم بها ثم يتقاضوا ثمنها منهم!.
وفي مسعاها لإثبات حضورها بشكل دائم حافظت روسيا على المسارين منفصلين عن بعضهما، فهي تفاوض على أنها حيادية ضامنة للنظام، وتقطع التعهدات بوقف إطلاق النار بينما قواتها وقوات النظام تدمّر وتجتاح المناطق بتغطية روسية.
وحتى عندما تعلق الأمر بعقد محادثات مع ممثلي فصائل المعارضة المسلحة، سعى الروس لجعل حضور الثوار دون تأثير أو معنى عبر تشكيل وفدهم المفاوض، وفرض من يريدون، مع توسيع المشاركة بعدد كبير (حوالي 60) مثّلوا المعارضة في أستانا.
سعى الروس إلى الاستفادة من عامل الوقت على أفضل وجه، لتثبيت نقاط في سوريا لا يمكن التراجع عنها إلا بثمن، وحاولوا ترسيخ حضورهم على أنهم طرف حيادي ضامن لنظام الأسد بينما قواتهم تدمّر وتجتاح المناطق.
اتفاق مجحف
وفضلاً عن تحركاتها المنفردة وقراراتها، ثبّتت روسيا وجودها من خلال عقد اتفاقيات مع نظام الأسد كان أهمها ذلك الاتفاق الذي أعلن في آب اغسطس 2016 والذي شرعن التدخل الروسي في سوريا، وأوحى بأنه جاء بناءً على طلب “سوريا”، كما تضمن الاتفاق توفير قاعدة حميميم في محافظة اللاذقية لمجموعة الطيران الروسي، بكل بنيتها التحتية، وكذلك المواقع التي يتم الاتفاق بشأنها بين الطرفين، وتستفيد القوات الروسية من قاعدة حميميم بدون مقابل، بحسب الاتفاق
ولعل أقل ما يقال عن هذا الاتفاق أنه مجحف لكنه تم برضا نظام الأسد الذي أثبت استعداده للتضحية بكل شيء في سبيل بقاء حكم العائلة، حتى لو كلف ذلك الاستغناء عن سوريا كلها.
صدى الشام