عندما عين حافظ الأسد محمود الزعبي رئيساً للوزراء في سوريا العام 1987، انتشرت نكتة تقول إن الرئيس حافظ الأسد استقبل الزعبي يوم تعيينه. التفت الأسد الى مرافقه وقال له: “بتأخذ محمود وبتشتري له مجموعة بدلات وقمصان وربطات عنق، وبتشتري له حذاء بلا رباط”. اعترض الزعبي قائلا: “لكن يا سيادة الرئيس أن بحب الحذاء برباط”. فقال الأسد: “لا. اشترِ له حذاء بلا رباط”. سأل الزعبي: “ممكن أعرف لماذا يا سيادة الرئيس؟!” فردّ الأسد: “انا ما بدي اياك لا تحل ولا تربط”.
من المعروف أن الأسد حمّل كل مآسي وأزمات البلد لهذا الرجل الصورة، الذي تمت تصفيته، يقال إن السبب كان اعتراضه على بشار، مع أنه من المشكوك فيه أن يكون الزعبي اعترض بأي شكل من الأشكال، فلم يُعرف له موقف فعلي من أي شيء، منذ كان رئيساً لمجلس الشعب حتى قضى في العام 2000 منحوراً.
في حادثة أخرى، ولكن هذه المرة ليست نكتة. في بداية عهد بشار الأسد، سادت فترة تفاؤل بانفتاح سلطوي على المجتمع، عُرفت ب”ربيع دمشق”، صدَّق البعض أنهم أمام رئيس إصلاحي. في تلك الفترة، قرّر قاضي تحقيق في القصر العدلي في دمشق، أن زمن تطبيق القانون قد أزف، وأن واجبه أن ينفذ القانون ولا شيء غير القانون. ولأن القانون عام يجب تطبيقه على الجميع، صادف أن أحيل إليه موقوف بجرم جنائي الوصف. جاء صف ضابط مساعد من فرع الأمن الداخلي (فرع الأمن الداخلي كان يقوده في حينها رجل الأمن الأكثر نفوذاً في البلد، اللواء بهجت سليمان، راعي بشار الوريث الذي ورث حكم سوريا عن أبيه)، وهو مدير مكتب عقيد في الفرع، دخل على القاضي، وطلب منه أخلاء سبيل الموقوف بناء على رغبة معلمه (العقيد). القاضي الذي صدَّق الربيع الكاذب، قال لصف الضابط: قل لمعلمك أن القانون سيأخذ مجراه. قال صف الضابط: أبلغ هذا الكلام لمعلمي. قال القاضي: نعم، بلغه لمعلمك. عاد صف الضابط الى القاضي في اليوم التالي ومعه تبليغ للقاضي بمراجعة فرع الأمن الداخلي. خاف القاضي من فرع الأمن الرهيب، وطلب من صف الضابط أن يتكلم مع معلمه، أخذ القاضي الهاتف منه، وتكلم مع الضابط وقال له: نخلي سبيله يا سيدي.. بس ضروري مراجعة الفرع؟ قال الضابط: طبعا ضرورية، بتجي بتشرب قهوة وبتروح على بيتك.
كان على الضابط أن يُفهم القاضي أن لا سلطة فعلية له على وظيفته، وانما هو ديكور ليس أكثر، وأن السلطة الحقيقية ستبقى لذلك الضابط القابع في الظلام حيث لا يراه أحد، لكن سلطته محسوسة في كل مكان.
كل من عاش في سوريا يعرف عشرات القصص عن تدخل المخابرات في كل تفصيل من حياة البشر، من تراخيص البسطات والمحلات، مروراً بالملاهي الليلة، وصولاً الى أي تعيين في أي وظيفة حكومية مهما كان مستواها. اخترقت الأجهزة الأمنية حياة المواطنين، وربطت حياتهم وأرزاقهم في التعاون معها، وإلا كان انقطاع الرزق هو المصير الطبيعي لعدم التعاون، إن لم تتم ملاحقته. كان هناك مهن في سوريا لا يمكن ممارستها من دون العمل مع الأجهزة الأمنية، مثل، سماسرة العقارات، تجار العملة السوداء، الأغلبية الساحقة من مفترشي الأرصفة. وإذا كنت تريد أن تنجح في أي مهنة، لا يمكن ذلك من دون تسهيلات من الأجهزة الأمنية، وهو ما يستدعي تقديم خدمات متبادلة. وما تشتغل به هذه الأجهزة، هو جمع المعلومات عن البشر، معلومات تبحث أساسا في نواياهم السياسية، والباقي تفاصيل.
تشكلت بنية السلطة في سوريا من طبقتين، الأولى خارجية ظاهرة، والثانية باطنية. الأولى ممثلة في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية… ممثلة في الوزارات والمحاكم والجيش والشرطة والصحافة ومؤسسات الدولة واداراتها والهيئات المحلية والبلدية، تبدو مجتمعة وكأنها سلطات تمثل دولة، وبنيتها مأخوذة من تقسيم السلطة الموجود في الدول الحديثة، حيث مبدأ فصل السلطات، وبذلك تكاد تكون ممتلكة لكل هذه المقومات على مستوى الشكل. وهذا الشكل هو الذي يظهر أمام العالم وأمام المواطنين الى حد ما. فهناك وزارات تمارس دورها في ادارة حياة المواطنين، وهناك وزارة خارجية مسؤولة عن العلاقة مع العالم الخارجي، وهناك انتخابات تجري لتأليف المجالس المحلية، أو تكوين برلمان، وحتى “استفتاء” على الرئيس! كل ذلك يسير بسلاسة، تصاغ القوانين وتصدر، وتجتمع الوزارة وتقرر، تستورد وتصدر، يجتمع المجلس المحلي ويقرر، تنبى المشاريع ويتم تمويلها من الموازنة العامة، يتم صياغة موازنة عامة للدولة، ويتم اقرارها والمصادقة عليها. كل ذلك يسير على قدم وساق، ويبدو الرئيس يقف على رأس الهرم التنفيذي. الصورة كاملة على مستوى الشكل، كل مستلزمات الدولة بالمفهوم الحديث لها، بالمعنى الشكلي، موجودة.
لكن كل هذا قشرة خارجية، فالرئيس هو الرجل الأول والأخير في الدولة، لأنه لا يوجد رجل ثان، الباقون كلهم يعملون عند الطاغية، لا يعملون معه. الطاغية لا يمسك بالسلطة، بواسطة هذه المؤسسات المدنية الشكلية، هي مجال لتوزيع المغانم وارتهان البشر، لكن مصادر الحكم والقوة تكمن في مكان آخر، هو الذي يمسك في المؤسسات الشكلية، وليس هذه المؤسسات هي التي تمسك به. في “الدولة الأمنية” (نقصد هنا بالدولة الأمنية، هو تحكيم أجهزة الأمن والمخابرات في الامساك بالسلطات الأخرى) التي بناها حافظ الأسد أمسكت الأجهزة الأمنية بكل مفاصل السلطات الأخرى بما فيها التحكم في الجيش، وباتت هي المتحكم الوحيد به، الأجهزة الأمنية هي أداة الحكم الفعالة التي استخدمها الأسد الأب لترسيخ سلطته، ولأنه يدرك أنها، تصلح لحماية النظام، ولا تصلح للانقلاب عليه، فقد حولها الى أخطبوط غير مرئي يتحكم بكل مفاصل البلد، وأخصى الجيش، لأنه الوحيد الذي اعتبره يشكل خطرا على سلطته، وبقيّ هو المتحكم الوحيد بهذا الأخطبوط الذي هندسه، وفق تحكم طائفي معين داخل الأجهزة الأمنية ذاتها، وهذا اللون الطائفي شكل باطن الباطن في الأجهزة الأمنية، وكان باطن الباطن هو الجوزة الطائفية الصلبة لسلطة الأسد الأب، العصية على الكسر، والتي حافظت على تماسكها، بعد أربع سنوات من القمع الوحشي والدموي، الذي مارسه الأسد الابن على كل الأراضي السورية.
طوال حكم عائلة الأسد لسوريا بقي الباطن، وباطن الباطن مخفيان عن الأنظار. فالأجهزة الأمنية موجودة وقوية وفعالية، لكنها في النهاية غير موجودة في المشهد العلني. فمن غير المسموح لضباط الأجهزة الأمنية الظهور على وسائل الإعلام، هذا ليس دورهم، انما دورهم حماية سلطة الرئيس المطلقة، بإمساك السلطة الشكلية وابقائها مدجنة، غير خطرة، وتحت السيطرة. فهذه الأجهزة هي من يختار المسؤولين الذين يشغلون المناصب من كل المستويات، وزراء، نواب، مدراء عامين، أعضاء مجالس محلية، موظفين، وحتى موظفي النظافة. كل ذلك من أجل عدم ظهور أي تهديد، مهما صغر لسلطة الطاغية المطلقة.
إن الفعالية المذهلة لأخطبوط الأجهزة الأمنية التي هندسها الأسد الأب، ظهرت في حياته، عندما بدأ وبشكل معلن بخريطة توريث الحكم، واختار الوريث باسل الأبن الأكبر له. وعندما قضى باسل في حادث سير أرعن، لم يتخلَ عن التوريث، بل اختار بشار وريثا جديدا. استدعاه من لندن، وأوكل مهمة تأهيله لحكم “المزرعة” السورية، لمسؤول الأمن الداخلي اللواء بهجت سليمان. والانجاز الأكبر لفعالية الأخطبوط الأمني، هو بقاء هذه الفعالية حتى بعد وفاة الأسد الأب. فقد ادارت الأجهزة الأمنية التوريث، كأن الأسد الأب ما زال في الحكم، وتم جمع مجلس الشعب على عجل، وأقر تعديلاً دستورياً يقضي بخفض الحد الأدنى لسن رئيس الجمهورية من الأربعين عاما الى أربعة وثلاثين عاما، لتناسب عمر الوريث في حينه، من دون أن يصدر عن السلطة، بكل تشكيلاتها، أي احتاج، أو حتى أي تبرم. لقد صمم الأسد الأب آلة باطنية، نجحت في امساك ليس فقط بتلابيب السلطة في سوريا، بل وبتلابيب السوريين أيضا، وبقيت آلة البطش هذه عاملة بفعالية كبيرة حتى بعد رحيل مصممها، وبقيت تعمل وبقي الأسد الأب يحكم البلد لسنوات طويلة بعد مماته، وآلة القتل التي تدمر البشر والحجر في سوريا اليوم هي من تصميم الطاغية الأب، وكل ما فعله الوريث، هو أنه كبس زر التشغيل.
يمكننا القول أن الأسد الأب ما زال يحكم سوريا حتى اليوم.
صحيفة المستقبل