ميشيل كيلو
قصص من دفتر الظلم!
كانت السيارة في طريقها من ضاحية السيدة زينب إلى دمشق، عندما أوقفتها سيارتا أمن ترجل منها عناصر توجهوا نحو ركابها، وطلبوا منهم النزول منها لتفتيشها. كان الركاب ثلاثة رجال وسيدة ثلاثينية على قدر جلي من الجمال. رأى ضابط من شباك سيارة الأمن الثانية السيدة، فجاء يبلغ الرجال الثلاثة أنهم مطلوبون إلى الفرع، وأن عناصر الدورية سيأخذونهم إليه، بينما سيتولى هو مرافقة السيدة إلى منزلها بأمان. بإشارة من يد الضابط، سارع الأمنيون إلى وضع القيود في أيدي الرجال والعصائب الجلدية على أعينهم. احتج أحد الرجال ودفع ببراءته ومن معه، وطلب من الذي سماه «سيادة الضابط» اعتقاله بعد إيصال زوجته إلى البيت، لكن هذا انهال وعناصر الدورية عليه ضربا ورفسا وجره إلى سيارة البيجو 505 ستيشن، حيث ألقي في صندوقها الخلفي، بينما انصاع رفيقاه للاعتقال دون اعتراض، وجرا أقدامهما إلى مقعد السيارة الخلفي مع شيء من الدفع والركل، وكثير من الشتائم التي انهالت عليهما كأفراد في عصابة مسلحة، تصطحب عاهرة تغطي بحضورها مهمتها التخريبية، كي لا تلفت الأنظار إليها.
دخل الضابط ومرافقوه إلى بستان في القسم الشرقي من ضاحية السيدة زينب، حيث جرد السيدة من ثيابها وبدأ باغتصابها، وحين انتهى منها تركها لهؤلاء. بعد ساعة، عادت السيارة الأمنية الثانية وهي محشوة بعناصر من الفرع، انقضوا على السيدة وفعلوا ما سبق لرفاقهم أن فعلوه، رغم أن السيدة كانت قد فقدت وعيها بعد اغتصابها للمرة الرابعة. في اليوم التالي، وجد فلاحون سيدة ميتة والقسم الأسفل من جسدها عاريا ومغطى بالدماء، وقد تم خنقها بشال زهري اللون يرجح أنها كانت تضعه حول عنقها، لكن حلقاته ضاقت بأيد قتلتها حتى أزهق روحها.
وفي الفرع، وبعد استقبال حافل دام قرابة ساعة، تعرض الرجال الثلاثة خلاله لضرب مبرح وإهانات شاملة طالت آباءهم وأجدادهم، جردوا من ثيابهم وأحذيتهم وساعاتهم ونقودهم وخواتمهم ونظاراتهم، ووضعوا في زنزانات منفردة، قبل أن يؤخذوا إلى «الديوان»، حيث سجلت أسماؤهم وأعطوا أرقاما، ووضعوا في «الدولاب» وضربوا حتى ملأ عويلهم أرجاء المكان، ثم أعيدوا إلى الزنازين وقد تورمت أقدامهم وانتفخت عيونهم وازرقت خدودهم وغارت أعينهم من اللكم والصفع والضرب بمختلف أدوات التعذيب. عند الظهر، أخرج أولهم من زنزانته وأخذ إلى التحقيق، حيث نصحه المحقق باحترام نفسه والإقرار بالتهم الموجهة إليه، وأفهمه أن الإنكار لا يجدي، لأن كل ما فعله مدون في دفتر أخرجه من درج طاولة كان يجلس وراءها، ثم فتح صفحة منه وقال: كل ما فعلته موجود هنا، فلا تدعنا نعذبك إلى أن «تفطس». والآن، اعترف بما فعلته أنت وأفراد العصابة ليل البارحة في منطقة السيدة زينب، قال الرجل إنه لم يفعل شيئا، وأطلق صرخة ألم مدوية ارتج الفرع لها، أعقبها بتوسلات ذليلة ترجو الضابط أن يستمع إليه ويفهم وضعه، لكن هذا رد «بجلافة» وهو يشير إلى العنصر الذي يقف وراءه طالبا إليه أن يصعقه مرة أخرى بالكهرباء: هذا ما أحاول فعله، لكنك لا تتجاوب معي. أنا أريد فهم وضعك، لو أعطيتني الفرصة لذلك، بيد أنني لا أقدر أن أتواطأ معك على إخفاء الحقيقة، التي عليك التعاون معي لكشفها وإظهارها حماية للشعب والوطن. رد الرجل متوسلا: دعني أشرح لك، أنا لست من أي عصابة، اسأل فرع الحزب في السيدة زينب عني، وستعرف أنني موال للسيد الرئيس. قاطعه المحقق صارخا: لا تذكر اسم السيد الرئيس كي لا تدنس قداسته بلسانك النجس، ولا تذكرني بالحزب: ألم يكن المجرم إبراهيم اليوسف ضابط أمن الحزب في كلية المدفعية، والمجرم عدنان عقلة مشرفا على التنظيم الحزبي هناك؟ الحزب مليء بالخونة والمجرمين، ونحن نطهره اليوم من العصابات الإسلامية والمسلحة، فلا تقل لي إنك قريب من الحزب، اللعنة عليك وعلى هكذا حزب. اعترف وإلا أزهقت روحك. قال الرجل: كما تريد. كنا البارحة في عملية نفذناها في منطقة السيدة زينب. ضد من؟ سأل المحقق، فقال قبل أن يصعقه التيار الكهربائي مرة أخرى: ضد النظام.
جيء بالرجلين منفردين إلى المحقق، الذي واجههما باعترافات زميلهما الكاملة، وفيها أنهم كانوا يتدربون ليل الأمس على السلاح في بساتين السيدة زينب، بصحبة إحدى العاهرات. صعقهما عنصر الفرع بالكهرباء قبل أن يجيبا، وانهالت عليهما السياط والعصي والقبضات، فأقرا بالتهم الموجهة إليهما وبانتسابهما إلى تنظيم مسلح.
بعد أيام، استدعي الرجال الثلاثة من جديد للتحقيق حول دورهم في موت المرأة التي كانت معهم ووجدت ميتة بعد اعتقالهم. لقد طلب إليهم هذه المرة الإقرار بأنهم اتفقوا على قتلها مع معتقل في الفرع. أنكر الثلاثة التهمة وقالوا: إنهم لم يروا المتهم قبل ذلك، وأصروا على براءتهم، بل إن زوجها اتهم رجال الأمن بقتلها، وذكر للمحقق بأنهم رفضوا السماح له بإيصالها إلى منزلهما قبل أخذه إلى الفرع، وأن الشكوك ساورته في نواياهم، وأنه سينتقم من قتلتها متى خرج من الفرع، فقال المحقق ساخرا: وهل تعتقد أنك ستخرج من الفرع؟ يا مسكين، أنت لا تعرف مع من تتعامل. إنك لن تخرج حيا من هنا، لأسباب كثيرة بينها تواطؤك على قتل السيدة، التي ادعيت كذبا أنها زوجتك.
بعد أيام من التعذيب، وقع الثلاثة إقرارا بأنهم كلفوا شخصا بقتل الزوجة، علموا بعد مضي سنوات كثيرة في السجن أنه كان عنصرا في الفرع.
خرج الرجال بعد ثمانية عشر عاما من سجن تدمر العسكري. قبل مغادرة السجن، طلب منهم أن يوقعوا برقية شكر ترسل إلى من عفا عنهم وسامحهم: السيد الرئيس، فوقعوها، وطلب إليهم السكوت عما جرى لهم فصمتوا. كان الثلاثة قد اعتادوا العيش في السجن دون كلام، فقد كانوا يستيقظون في السادسة صباحا، فيلفون بطانيتهم ويسندونها إلى الحائط، ثم يجلسون عليها ويخفضون رؤوسهم حتى السادسة مساء، حين يأتي وقت النوم، دون أن يقولوا كلمة واحدة كي لا يتعرضوا لأفظع أنواع العقاب. بمرور الزمن، نسي الرجال ألسنتهم، حتى أن واحدا منهم كان يفعل الشيء ذاته في منزله، فهو يستيقظ في السادسة صباحا، فيضب فراشه ويجلس على كرسي أو مقعد قريب من الحائط ويخفض رأسه ويصمت حتى المساء. مع الوقت، نسي أهله رغبتهم في إخراجه من الصمت، وأقلعوا عن ممازحته وتذكيره بأن الإنسان حيوان ناطق. بعد سنوات من الصمت، أفاقوا ذات صباح فوجدوه ميتا ورأسه على صدره وعيناه مفتوحتان وموجهتان نحو الأرض، والدهشة تفيض منهما!