ليس سرّاً أن النظام السوري، منذ أرساه حافظ الأسد، هو نظام أمني بامتياز قبضته الحديدية مجموعة أجهزة أمنية تحكم في الأمن والسياسة والاقتصاد وتفاصيل الحياة اليومية. وما جرائم الأجهزة الأمنية سوى أحد الأسباب الرئيسية التي حرّكت السوريين ليخرجوا بثورتهم التي، حين تنادي بإسقاط النظام، فهي تقصد، من بين ما تقصده، إسقاط المنظومة الأمنية التي باتت القصص الدموية حولها، أقرب إلى الخيال، لكنها حقيقة. وكأن العقيدة القتالية للأجهزة الأمنية السورية تقوم على اعتبار أن العدوّ الوحيد هو الشعب، محطّ الشكوك بشكل دائم.
وحوّل الأسد الأب الأجهزة الأمنية في سورية، إلى أعمدة حكمه الأساسية المتغلغلة في الدولة والمجتمع، وجعل حزب “البعث العربي الاشتراكي” رديفاً لها. أطلق الأسد الأب يد الأجهزة في جميع نواحي الحياة، بدءاً من أبسط سبل العيش، كـ “الحصول على رخصة بائع متجول”، وصولاً إلى عضوية مجلس الشعب وترفيع ضباط الجيش، وتشكيل الحكومات وتعيين القضاة. وكان مجرّد الحصول على أي وظيفة عامة، مهما علا شأنها، يعتمد على أن تكون الدراسة الأمنية إيجابية.
ويُمكن اليوم تقسيم تاريخ الأجهزة الأمنية إلى مرحلتين: مرحلة حافظ الأسد ومرحلة ابنه الرئيس الحالي بشار الأسد. ففي زمن الأسد الأب، كانت الأجهزة الأمنية تتنافس على تقديم الولاء له، فتمكن من استيلاد حالة من العدائية والتنافس فيما بينها، لتزدحم التقارير اليومية الواردة إليه، بوشايات عن أداء بعضها البعض.
ونظّم الأسد الأب حالة من التوازن داخل الأجهزة، بين إطلاق يدهم في الدولة، التي شكّلت مصدر إثراء فاحش لهم، وبين تشكيل ملف كامل لكل عناصرها عن فسادهم وتجاوزاتهم، ما سهّل التخلص من أي شخص يشذّ عن الطريق، من دون أن يترك أثراً على المنظومة، فهناك جيش من الانتهازيين الجاهزين لملء الفراغ.
أما في مرحلة الأسد الابن، تغيرت أهداف الصراعات بين الأجهزة الأمنية، التي بدأت تتقاتل حول النفوذ على الأرض. وتبدو خريطة دمشق اليوم، موزّعة إلى جزر أمنية، تتبع كل منها لفرع وقسم، كقسم الأربعين التابع للفرع الداخلي في شعبة استخبارات أمن الدولة، الذي يسيطر على منطقة الطلياني جسر أبيض، وحتى ساحة الأمويين في قلب العاصمة دمشق.
وتتكوّن الأجهزة الأمنية السورية من “شعبة المخابرات العامة ـ أمن الدولة”، و”شعبة المخابرات العسكرية”، و”شعبة المخابرات الجوية”، و”شعبة الأمن السياسي”. ويتفرّع عنها العديد من الفروع والأقسام المنتشرة في جميع مناطق البلاد، المرتبطة جميعها بمكتب “الأمن الوطني”، المُشكّل في العام 2009، والمتصل مباشرة برئاسة الجمهورية، بدلاً من “مكتب الأمن القومي” الذي كان يتبع القيادة القطرية لحزب البعث.
وبحسب مرسوم تشكيل مكتب “الأمن الوطني”، يتمتع المسؤول عن رسم السياسات الأمنية السورية والإشراف على الأجهزة الأمنية بصلاحيات واسعة جداً في الشأنين الداخلي والخارجي، ويرأس المكتب اللواء علي المملوك، المقرّب من الأسد الابن، وذلك خلفاً للواء هشام اختيار، الذي اغتيل عام 2012، ضمن تفجير استهداف خلية الأزمة التابعة للنظام.
ويشتمل المكتب على غرفة عمليات رئيسية، موصولة بجميع الاتصالات السلكية واللاسلكية، بما فيها قوى الأمن الداخلي المعروفة بالشرطة، والتابعة لوزارة الداخلية. ما يجعلها قادرة على معرفة تحركات كامل الدوريات والقوى التابعة لكل الفروع.
وتتبع إدارة “أمن الدولة والأمن السياسي” شكلياً إلى وزارة الداخلية، في حين تتبع شعبتا “المخابرات العسكرية” و”الجوية” وزارة الدفاع. وتمتلك العناصر الأمنية حصانة قانونية استناداً لمراسيم تشكيلها، وفقاً للمادة 16 من قانون “استحداث إدارة أمن الدولة”، الذي صدر بالمرسوم التشريعي رقم 14 تاريخ 15/ 1/ 1969. ويتبيّن من المادة أن عناصر الجهاز محميون من الملاحقة القضائية في حال ارتكابهم جرائم تعذيب، على الرغم من أن القانون يصفها بـ “الجرائم”.
وجاء في نصّ المادة 16 ما يلي: “لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في إدارة أمن الدولة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكلة إليهم، أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير”.
ولا تزال هذه القوانين سارية إلى اليوم، بل إن الأجهزة باتت فوق القانون من دون رقابة ولا رقيب، ويُعتبر رئيسها وحده المخوّل بمراقبتها فقط. وتجلّى ذلك في أبسط الأشكال كـ “انعدام التقيّد بمدة التوقيف المحددة في القانون بـ60 يوماً”، إذ مرّت سنوات على الكثير من المعتقلين من دون الكشف عن مصيرهم. كما أن ملفات من يُحوّل إلى المحكمة تبقى عالقة، في ظلّ عدم جرأة القاضي على سماع شكوى المعتقل، لأن القضاة يُعيّنون بموافقة أمنية، فيساهمون بالتالي في توقيف المعتقلين لسنوات من دون محاكمة فعلية استناداً للتعليمات الأمنية.
وكان اللواء السبعيني، بدأ حياته العسكرية الأمنية، إثر انتقائه من اللواء محمد الخولي ليكون أحد ضباط فرع “المخابرات الجوية”، الذي أمر الأسد الأب بتشكيله بداية سبعينيات القرن الماضي، وكان معه عدد من الضباط أمثال ابراهيم حويجة ومحمد حمادة وياسين محمد ياسين وغيرهم.
تسلّم المملوك فرع التحقيق في “المخابرات الجوية”؟. ومع بداية تشكيل هذا الفرع، كان هدفه حماية أمن سلاح الجو السوري، وأمن الأسد، لتتسع صلاحياته لاحقاً إلى مطاردة معارضيه، ويصبح أحد أكثر الأفرع ملاحقة للسياسيين المناوئين للأسد، ولدى ضباطه قائمة طويلة من الاتهامات بارتكاب انتهاكات بحق المعتقلين والتفنن في تعذيبهم.
برز اسم المملوك إعلامياً منذ العام 2002، وتحدثت تقارير عن ارتكابه انتهاكات لحقوق الإنسان بحق المعتقلين، فضلاً عن الحديث عن دوره في السياسة الخارجية السورية، وعلى رأسها ملف العلاقات التركية السورية، والأميركية السورية، بحسب ما تكشفه برقيات موقع ويكيليكس.
لم يغب المملوك عن السياسة الداخلية، ففي العام 2005، بدأ النظام ما سُمّي حينها بـ “الانفتاح” عبر التطوير والتحديث، فتبنّى معظم المواقع الإلكترونية الصحافية عبر تمويلها وتوجيهها، ويُقال إنه كان يعارض فتح المجال أمام المجتمع المدني. اليوم، بات المملوك مطلوباً من قبل القضاء اللبناني في قضية ميشال سماحة، بتهمة إدخال مواد متفجّرة إلى لبنان والتخطيط للقيام بعمليات اغتيال داخل الأراضي اللبنانية.
وترافق تعيين المملوك رئيساً لمكتب “الأمن الوطني”، مع تعيين اللواء رستم غزالة رئيساً لشعبة “الأمن السياسي”، بعد أن كان يشغل منصب رئيس فرع “الأمن العسكري” في دمشق، واللواء ديب زيتون رئيساً لإدارة “المخابرات العامة”، في حين كان اللواء جميل حسن رئيساً لشعبة “المخابرات الجوية”، واللواء رفيق شحادة رئيساً لشعبة “المخابرات العسكرية”.
وتفيد مصادر مطلعة لـ”العربي الجديد”، أن “المملوك عمل خلال السنوات الأخيرة على إعادة ترتيب الاستخبارات السورية، فهو يعتبر زيتون من الضباط الذين يمكن أن يعتمد عليهم في تنفيذ إرادته، في حين لا يرى أن حسن قد يعيق طموحاته السياسية. وهو المعروف عنه إفناء نفسه في العمل من قناعته، أنه يدافع بولائه الأعمى عن الوطن المُختزل لديه بالرئيس الأسد. كما نُشر العديد من التقارير التي تُفيد بتورطه بانتهاكات بحق المواطنين، ودموية قمعه الحراك السلمي”.
وتابعت المصادر أن “المملوك لا يحترم غزالة المتمرد والفاسد، والذي حاول دائماً تجاوزه بعلاقته مع الأسد، الذي كان بدوره يغض النظر عنه، في حين كان شحادة نداً للمملوك، وهو الضابط السابق في القصر الجمهوري والمقرب من الأسد الأب والابن، الذي تحوم حوله الفضائح المتعلقة بالفساد، لا في قمع الثورة”.
وأتت التغيرات الأخيرة ضمن ترتيب التوازنات بما يخدم مصلحة المملوك، ومن أبرزها تنحية العقيد حافظ مخلوف، ابن خال الأسد وشقيق رجل الأعمال المتنفذ رامي مخلوف، الذي يوصف بأنه “وكيل الأسد التجاري”، من رئاسة ما يُعرف بـ “قسم الأربعين” التابع لفرع الأمن الداخلي في إدارة “المخابرات العامة”، والذي كان على علاقة سيئة مع المملوك أيام ترؤسه الإدارة.
وينظر سكان دمشق لقسم الأربعين على أنه إدارة مستقلة بذاتها، والقسم معروف ببطشه، فـ”الداخل له مفقود والخارج منه مولود”. ولم يكن القسم يستجيب لتعليمات المملوك ويهزأ منها، إلا أن تمرّد مخلوف وكثرة مشاكله مع رئيس إدارته زيتون، رجل المملوك، وشعبة الأمن العسكري، إضافة إلى خلق إشكاليات مع حلفاء الأسد اللبنانيين، وانتشار أحاديث غير مؤكدة عن تسهيله تهريب الأسلحة والمواد الغذائية إلى الغوطة الشرقية، تسبب في نهاية الأمر بـ “ترقيته” إلى رتبة عميد، وتحويله إلى وزارة الداخلية بدفع من المملوك، وتشير المعلومات إلى أن مخلوف اعتكف عقب هذا القرار في منزله.
كما استغل المملوك أخيراً الصراع بين رستم وشحادة، حول السياسة الأمنية في المنطقة الجنوبية، وعدم تقبل الأول التعامل مع “حزب الله” اللبناني، ليدفع إلى إقالتهما معاً من قبل الأسد وتعيين اللواء نزيه حسون رئيساً لشعبة “الأمن السياسي” بدلاً من الأول، واللواء محمد محلا رئيساً لـ “شعبة المخابرات العسكرية” بدلاً من الثاني.
مع العلم أن حسون هو من محافظة السويداء، وكان يشغل منصب معاون المملوك في إدارة “المخابرات العامة”، قبل أن يعين معاوناً لغزالة في ديسمبر/كانون الأول من العام 2012. ويُعتقد أن قربه من المملوك، كان من الأسباب التي دفعت به إلى رئاسة الشعبة. في حين جاء محلا من إدارة “الأمن السياسي”، وهو الذي كان ضابطا في الحرس الجمهوري، وبذلك يكون المملوك أكمل ترتيب أجهزة الأمن السوري بما يناسبه، إذا حيّدنا جميل حسن.
وبلغت قدرة المملوك وقوته مبلغاً، دفعت أحد المعارضين السوريين إلى القول لـ “العربي الجديد”، إنه “في حال كانت هناك جدية بحل الأزمة السورية على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فيجب أن يكون رئيس الوفد المفاوض من النظام هو علي المملوك، لأنه يقبض اليوم على أهم الملفات السورية، والأقدر على فرض ما يريد، وإن كان يعمل باسم الأسد الابن”.
ويُقدّر عدد عناصر أجهزة الأمن السورية المختلفة بنحو 100 ألف عنصر وضابط، أما اليوم هناك عشرات الآلاف المنظمين في مليشيات موالية تقاتل في صفوفهم. وتُعتبر سورية من أكثر الدول الأمنية استناداً إلى حصة المواطنين من عناصر الاستخبارات، فلكل 129 مواطناً سورياً، يوجد عنصر أمني، وهي من أعلى النسب في العالم.
المصدر: العربي الجديد