لو نظرنا إلى خط تطور العلاقات السعودية التركية، وقارناه بخط تطورات القضية السورية، سنجد هناك علاقة وطيدة تنعكس مباشرة على الرغم من الدول الأخرى المؤثرة.
في البداية، حققت المقاومة السورية نجاحات كبرى على الأرض بسبب التطابق أو التوافق في الموقف بين السعودية وتركيا في الملف السوري، وكان من الملاحظ أن السعودية اتخذت موقفاً مناهضاً للنظام السوري -وكذلك الليبي- على عكس موقفها من نظام بن علي في تونس ومبارك في مصر، وحتى علي عبد الله صالح في اليمن.
بعد الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي في مصر على الرئيس المنتخب، والخلاف الشديد بل المتناقض بالموقف بين تركيا والسعودية من هذا الانقلاب، انقلبت الأوضاع في سورية، وتراجعت المقاومة السورية وخسرت كثيراً من المواقع الاستراتيجية، وزادت فرقتها وانقساماتها وصراعاتها الداخلية. حتى إنه يمكن القول إن كثيراً من تلك الصراعات كانت بين أجنحة مدعومة من تركيا، وأخرى من السعودية، وإن لم يعلن هذا إلى العلن، فغالبية وحدات الجيش السوري الحر مدعومة تركياً، وقد حاربتها القوى السلفية التابعة للسعودية.
الانقلاب اليمني، ووضع إيران يدها على هذا البلد فرض على السعودية إعادة الحسابات، وفي هذه الأثناء توفي الملك عبد الله، وتسلم الحكم الملك سلمان، وفتحت صفحة جديدة في العلاقات التركية السعودية انعكست إيجاباً على الوضع السوري، وتمكنت المقاومة السورية من استعادة بعض المناطق، وتحرير مناطق أخرى مثل ما تبقى من محافظة إدلب…
صحيح أن الانفتاح السعودي على تركيا كان كبيراً، ومتعدداً، ولكن القوى السعودية الداخلية المناهضة لهذا الانفتاح بقيت قائمة، وإن تراجعت إلى الخلف. وهذا يبدو بوضوح من خلال الإعلام السعودي الخارجي الذي لا يفوت فرصة للهجوم على تركيا، وتوجيه اتهامات كبرى لها جلها لا أساس له من الصحة. وقد قوي هذا التيار مع المحاولة الانقلابية الفاشلة التي حدثت في تركيا، فعادت الصحف السعودية الخارجية إلى تلفيق الأكاذيب حول تركيا، وحتى إن تلفزيون “العربية” أقدم على إجراء حوار مع فتح الله غولان لعله أول لقاء صحفي يجريه طلال الحاج -ومن المتوقع أن يكون الأخير- ويلعب فيه دور التلميذ الذي أعطاه معلمه الأسئلة، وطرحها عليه أثناء زيارة المفتش التربوي للصف.
فشل الانقلاب، وعادت تركيا قوية، ولن ندعي ما تدعيه الحكومة التركية بأنها باتت أقوى مما كانت عليه قبل الانقلاب، ولكن الصدمات الكبرى إن لم تقتل تقوي، ولكن هذه القوة لم تظهر آثارها على الأرض بعد.
كان الانقلاب أيضاً منعطفاً في العلاقات التركية مع العالم الخارجي، فالعلاقات المتوترة بينها وبين الولايات المتحدة بسبب الملف السوري زادت توتراً بسبب الدور المفترض للأخيرة بالانقلاب، إضافة إلى ما تعتبره تركيا دوراً أمريكياً ضد المصالح الاستراتيجية التركية بسبب دعمها لحزب العمال الكردستاني الذي يحارب تركيا. وفي لقاء أردوغان مع نائب الرئيس الأمريكي بايدن في الولايات المتحدة على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبحضور ممثل الرئيس الأمريكي في التحالف الدولي لقتال داعش بريت ماكغورك، قدم أردوغان الصور التي التقطتها المخابرات التركية للأسلحة التي تُقدم لحزب العمال الكردستاني، مما جعل بايدن يصمت، ولا يعرف بماذا يجيب.
هذا الوضع يفرض على الدول الإقليمية المتضررة من المواقف الأمريكية أن تتقارب لترسم سياسة جديدة يمكن أن تخفف تبعاتها التي من المحتمل أن تصل إلى كوارث.
لا بد من قراءة زيارة ولي العهد السعودي محمد بن نايف إلى تركيا ضمن هذه السياقات. صحيح أنها تأتي في إطار ترميم ما خربه الموقف من الانقلاب الفاشل في تركيا، ولكن البيان الرسمي أكد على أن القضية السورية وقضية الإرهاب هما النقطتان الأبرز اللتان كانتا على جدول أعمال اللقاء.
لا بد أن المقاومة السورية تعيش أسوأ حالاتها، ولم يعد هناك حديث عن تدهور بالمعنويات، بل انهيار كامل، فحلب الشرقية محاصرة، والوعر على خطى الإفراغ، وهناك بعض مدن الغوطة الغربية على هذا الطريق.
التقى ولي العهد السعودي كلاً من رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية في تركيا، والملاحظ أن الاستقبال الذي حظي به في المجمع الرئاسي كان من النوع المخصص للرؤساء والملوك، وهذه رسالة واضحة بأن تركيا تعامل ولي العهد السعودي باعتباره ممثل الملك أو الملك نفسه، وفي بادرة مفاجئة أيضاً قلد رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان وساماً رفيعاً للأمير ولي العهد الضيف.
زيارة ولي العهد السعودي إلى تركيا تعطي مؤشرات إلى إمكانية فتح صفحة جديدة للعلاقات التركية السعودية، ولعل الظرفين الدولي والإقليمي يفرضان على البلدين هذا التقارب، وفيما لو نجح البلدان برسم استراتيجية لتعاون مشترك، فلا بد أن ينعكس هذا التقارب على المقاومة السورية إيجابياً.
نعم، ثلاثة أشهر سوداء على الوضع في سورية بعد فشل الانقلاب التركي، وتعكّر العلاقات بين السعودية وتركيا، فهل تنقشع هذه الغمامة؟ وهل يمكن إزاحة أو تحييد القوة التي تحاول جر السعودية في الاتجاه المعاكس لمصالحها الاستراتيجية وفق حسابات خاطئة أو لحساب دول أخرى؟
لن يطول الوقت كثيراً لنحصل على إجابات عن هذه الأسئلة، فالوضع السعودي حرج جداً، وخاصة بعد الضغوط الأمريكية عليها، والتحالف الجديد بين الولايات المتحدة وإيران، والأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة إلى تركيا، فهي ما زالت تبحث عن شركاء ولو رمزيين، معها من أجل تحقيق بعض النجاحات في الشمال السوري كي لا تبدو أنها تتصرف وحدها، وبدافع “استعماري”…
ترك برس