الإخوة في الدول العربية الشقيقة، الجارة العزيزة تركيا؛ السّوريون يعرفون تماما – وبعد زفرات الروح التي امتدت نصف عقد من الزمن- أنَّ بوليصة التأمين على سلطاتكم موجودة في البيت الأبيض، ونسخة منها في تل أبيب. ويعرفون أيضاً أنّ هاجسكم الأساسي ليس حقنَ دمائهم، بل خشيتكم أن تتحولوا مضطرين إلى مجرمين كبشار الأسد، وترتكبوا ما ارتكب بحقِّ شعوبِ بلدانٍ وُلّيتم عليها بعقود أبديّة مُذلّة لا تسمح لكم بممارسة آدميتكم.
نسي الملك فيصل في لحظة ذلك العقد، فكان حتفه. بعدها قرر أصحاب البوليصة أن يمنحونكم بعض الصلاحيات، فصار بإمكانكم أن تقولوا ما تشاؤون؛ شريطة ألا تفعلوا شيئا!
لا أدعي المعرفة المطلقة بالسوريين لكنّ درايتي بتركيبتهم الذهنية وطاقات أرواحهم الجبارة تدفعني للقول: إنكم لستم الوحيدين الذين تخشونهم، بل من يحتفظون لكم ببوليصة البقاء السلطوي أيضاَ
لم يكن صمت السوريين الذي دام نصف قرن جُبناً، بل كان صبر الجبابرة لعلمهم بأنْ لا داعم لهم الا الله، وكان ذلك أوّل شعاراتهم وأهمها عندما انتفضوا.
كانوا السند الحقيقي لأهلهم في فلسطين ذراع سورية الجنوبي، فأتى من يغلق ذلك الباب عندما صنع أشرس معتقل وسمّاه “فرع فلسطين”. كانوا الأشد غيرة على العراق، فصنع قامعوهم حزبا بجناحين بأهداف واحدة، ولكن أحدهما يبحث ليل نهار عن تدمير الآخر، وكان الأسد أول المباركين للقضاء على صدام حسين.
ثم جاء الخميني الذي كان يعيش في الغرب بما سماه “ثورة إسلامية” ليخلق للغرب نفسه عدوا جديداً بعد الإمبراطورية البلشفية التي عاش الغرب على عدائها لسبعة عقود
وفعلاً تحول الاسلام بفضل الملالي إلى العدو الجديد بعد أن وُصِم بالإرهاب، فكانت التغذية من الغرب، وكانت الفاتحة باحتجاز عاملي السفارة الأمريكية، وكان مصطلح “الشيطان الأكبر” اختراعا خمينيا للإشارة إلى أمريكا؛ وفي ظله فعل الملالي ما يحلو لهم.
مرت أمور تونس ومصر وليبيا وحتى اليمن دون أن يتولد عنها هذا المنسوب الهائل من الدم والدمار. والسبب واضح إنه القُرب من مخبأ البوليصة التي تحدثت عنها آنفاً.
كان السر هناك. نظام سوري أراح الكيان الصهيوني لعقود، فلا يمكن التخلي عنه بأيام أو شهور. لابد أنَّ الجهة المؤمّنة على الأنظمة وبالتوافق معهم اتخذت قراراً بألا يطال النظام عطب قاتل؛ وإن حدث فلتتحول سورية إلى حالة عطالة توازي زمنياً على الأقل تلك السنين التي نعم فيها الكيان بالطمأنينة والهدوء على حدوده الشمالية الأخطر عليه.
من هنا تم شل قرار أمريكا فأصبح يتراقص بين (لا سياسية، لا استراتيجية، تهديدات وتوصيفات بلاغية، قيادة من الخلف، لا مبالاة). خلالها وعلى ضوء لا فاعلية أمريكا المقصودة تحرك الدب أو الضبع الروسي على رائحة الدم السوري. فجرى استخدام تلك الحالة الروسية الفطائيسية خير استخدام من قبل أصحاب البوليصة، فأضحى المؤمنّين على سلطاتهم يغازلونها أحياناً ويلعبون معها شد حبال ملفاتها العالقة في النفط والاقتصاد وأوكرانيا أحياناً أخرى.
يعلم السوري أن أمريكا -ومنذ الكيماوي- سعت لإدارة أزمته، لا لحلها، فلا هي تدخلت لوقف “الهولوكوست السوري” -وقد كان هذا واجبها كقوة اختارت أن تكون المتحكم بمصير العالم- ولا هي سمحت للسوري أن يدافع عن نفسه، ولا لمن يريد دعمه في البقاء أن يقوم بواجبه. وبترتيب مع تل أبيب تم استخدام القيصر الصغير بطريقة جهنمية عبر إشعاره بأنه مهم وملفاته الأخرى تم استخدامها بطريقة ابتزازية، فزاد في التخريب مأساةً واتساعاً، وتحت يافطات أعذار لا حصر لها.
وأخيراً، ربما فطن إلى نهايات محتومة وخيمة بعد تدخله العسكري السافر في بلاد السوريين. فبدأ يعرض على الأمريكيين والإسرائيليين أصحاب المشروع التحالف في استهداف جهات عسكرية معينة في سورية وإدخال نظام الاسد معه،وبيده. ومقابل ذلك يفاوض على رأس الاسد عبر عملية سياسية تصوَّر نفسه مشتركا مع الامريكان فيها- وحتى مديرا لها عبر ايهامه باستلام الملف السوري. فيغيب عن ذهنه أن الامريكين جعلوا من الايرانيين أحد حجارة العثرة في وجهه، إن هو أراد تقرير مصير الأسد. وبدورهم الايرانيون توهموا أنَّ ضمانة تخريب أي مشروع بيدهم ونسوا أو تناسوا أن أصحاب البوليصة الأساسيين هم من يحدد مآل الأمور.
أشهر وتخرج من الادراج ملامح مشروع جديد مع رئيس أمريكي جديد، لتستمر عملية النزف والاستنزاف للجميع بحلة جديدة. وقتها تكون الامور قد ترتبت جيوسياسياً وربما بجغرافيا جديدة تناسب تماماً أصحاب النسخة الثانية من البوليصة.
وحدهم السوريون وسليقياً وبناء على تجارب الموت المتكرر يلتمسون ملامح شيفرة الأعداء الحقيقيين. هم يبقون الأخطر. وستترجم مخاطرهم بأشكال تصعب الإحاطة بها كمبيوترياً. أليس من اخترع أحدث الكمبيوترات المحمولة حمصياً سورياً فيه من جينات جوليا دومنا التي حكمت روماً يوماً؟
كلنا شركاء