كشفت معركة حلب الأخيرة مدى الاختراق الذي تعانيه المعارضة المسلحة، والذي كان له الدور البارز في السقوط السريع والمفاجئ للجزء الأكبر من المدينة الخاضع لسيطرة المعارضة، لحساب النظام وحلفائه. لكن اختراق النظام لصفوف المعارضة، لم يستثنِ أياً من قطاعاتها العسكرية والخدمية والإعلامية والإغاثية والطبية والقضائية، حيث كان التغلغل واضحاً أيضاً في الهيئات والمجالس “الثورية” التي كان من المفروض أن تكون أكثر مناعة من غيرها أمام تسلل العملاء.
لم تدخل المليشيات الموالية للنظام إلى مناطق مجهولة بالنسبة إليها أثناء التوغل في الأحياء الشرقية من المدينة. كانت تعرف تماماً حجم الضربات الموجعة التي توجهها لمقاتلي المعارضة، وتصطاد الأهداف بدقة. أهداف عسكرية، أو مكاتب تموين وإغاثة، ومواقع وأحياء مدنية تعتبر حواضن وثيقة ينتمي إليها مقاتلو الكتائب المنتشرين على جبهات القتال في شتى نواحي الأحياء الشرقية المحاصرة. وكانت المليشيات تغير من تكتيكاتها باستمرار بما يتوافق مع وضع المعارضة في الميدان، وردود أفعالها.
الاختراق الإعلامي والتقني
لم يكن إعلام المعارضة الحلبية بمنأى عن الاختراقات التي حققها النظام في صفوف معارضيه في حلب. فقد كشفت الأيام الأخيرة التي سبقت حصار المعارضة في مربع الأحياء الأربعة التي بقيت تحت سيطرتها، إبان انهيارها الكامل أمام المليشيات في الأحياء الشرقية في قسميها الشمالي والأوسط، ومحيط القلعة، أن عدداً من الناشطين والإعلاميين التابعين لوسائل إعلامية من بينها قناة “حلب اليوم”، وفصائل مسلحة مثل “لواء أحرار سوريا”، قد عادوا فعلاً إلى “حضن الوطن”. الجهات نفسها التي كانوا يعملون لديها، قالت إنهم التحقوا بالنظام بعدما أنهوا مهماتهم الموكلة إليهم.
وغادر الناشطان الإعلاميان، نعيم خواجكي، وبشار نحال، مناطق سيطرة المعارضة، الأسبوع الماضي، متوجهَين إلى الأحياء التي يسيطر عليها النظام بشكل سري. الناشطان كانا يعملان كمصورَين لدى “لواء أحرار سوريا” الذي كان مقاتلوه ينتشرون بشكل رئيسي في أحياء حلب القديمة، ومحيط القلعة، وفي حي باب الحديد.
كذلك غادر الإعلامي، ومراسل قناة “حلب اليوم”، أحمد مصطفى، الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة في حلب، باتجاه مناطق سيطرة النظام في المدينة، برغم إصابته. جاء ذلك فور الإعلان عن فتح ممرات آمنة لخروج المحاصرين إلى ريف حلب الغربي ومناطق إدلب، بموجب اتفاق روسي تركي، وقعت عليه الأطراف داخل المدينة. ويُعرف عن المراسل مصطفى نشاطه الواسع، وقربه من الفصائل والكتائب الإسلامية التي كانت تقاتل إلى جانب المعارضة المسلحة في حلب، وظهر في لقاءات عديدة مع مقاتلين وقادة ومنظّرين في معارك المعارضة في ملحمتي حلب الأولى والثانية التي كانت تهدف إلى كسر الحصار.
عضو المكتب الإعلامي في مديرية الدفاع المدني بحلب الحرة، عامر أبو شام، هو الآخر غادر باتجاه مناطق سيطرة النظام، في وقت سابق من الأسبوع الماضي، وهو ناشط ومصور ميداني كان يرافق فرق الدفاع المدني في كل جولاتهم الإنسانية داخل الأحياء المحاصرة ويوثق بعدسته المواقع التي يستهدفها طيرن النظام وروسيا ومدفعية وصواريخ المليشيات التي كانت تسقط على الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة بمعدلات خيالية.
وقالت المعارضة إن هناك عدداً آخر من الناشطين اتجهوا نحو مناطق سيطرة النظام في حلب، مع بدء الانهيار الذي كانت شرارته الأولى من حي مساكن هنانو في الشمال الشرقي من المنطقة المحاصرة في حلب. وتتهم المعارضة كل من نحال ونعيم، وأحمد مصطفى وعامر أبوشام بالعمالة للنظام، وإلا لما تجرأوا على المغادرة ودخول مناطق النظام.
الإعلاميون الفارون إلى “حضن النظام” في حلب، كانوا يتمتعون بعلاقات وثيقة بمقاتلي المعارضة المسلحة، وبعضهم لديه أشقاء كانوا يقاتلون في صفوفها، هم أيضاً غادروا باتجاه مناطق النظام. حرية الحركة التي تمتع بها النشطاء والإعلاميون بشكل عام في مناطق سيطرة المعارضة في حلب، وامكانية دخولهم مختلف مقرات الفصائل، ومخازنها، والخطوط الأولى في جبهات القتال، مكّنتهم من الاطلاع على كل التفاصيل الأمنية والعسكرية والمدنية في الأحياء التي تسيطر المعارضة.
الناشط الإعلامي عبد اللطيف نورس، أكد أن اختراق المعارضة المسلحة في حلب عبر الإعلاميين والناشطين، كانت له انعكاسات سلبية على المعارضة خلال المعارك الأخيرة. ومن المؤكد أنه تم تزويد النظام بمعلومات عسكرية، تجهيزاتها، ومعداتها، وحجم الأسلحة والذخائر الموجودة في كل محور وعدد المقاتلين المرابطين في الجبهات التي كانت المحور الرئيسي لهجماتها. وحصل النظام وأجهزته الأمنية والعسكرية، على معلومات تخص وضع المعارضة في الأحياء الشرقية، ومن خلالها تم تحليل قدرتها وجهوزيتها للرد.
ويعتقد الناشط نورس أن الاختراق الإعلامي والتقني كان خطيراً. أما الاتهام الموجه للناشطين والإعلاميين الفارين نحو مناطق سيطرة النظام، فاستندت فيه المعارضة إلى وقائع واضحة. إذ غادر معظمهم الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة بحلب، بعد بدء الحديث عن اتفاق يضمن خروجها من المدينة، وبعدما حُسمت المعركة على الأرض لصالح المليشيات. لا تحليل آخر، وفق الناشط نورس، إذ: “كيف يقوم ناشط إعلامي بتسليم نفسه إلى النظام رغم معرفته بالمخاطر المحيطة به والتي قد تؤدي إلى إعدامه أو موته تحت التعذيب؟”
الإعلاميون العملاء لم يكونوا وحدهم من نقل الصورة للنظام والمليشيات عن الوضع الذي تعيشه المعارضة في حلب فحسب، بل عملت الخلايا المنتشرة بين المدنيين، وهم من الموالين للنظام، والذين كانوا ينشطون داخل الأحياء الشرقية المحاصرة كمواطنين صحافيين، من خلال بث مقاطع فيديو لأحياء ومواقع تابعة للمعارضة، ورفع لأعلام النظام في مواقع وعلى أبواب جوامع ومقار معروفة، وساهم ذلك بشكل كبير في إثارة الفوضى في المناطق التي تنتشر فيها المعارضة وانعدام ثقتها في البيئة الاجتماعية المحيطة.
الفيديوهات التي صورها المواطنون الصحافيون الموالون للنظام في مناطق سيطرة المعارضة، شملت أحياء عديدة في حلب القديمة وغيرها في الجزء الشمالي الشرقي، قبل الاجتياح بفترة وجيزة، وأثناء المعركة التي شنتها مليشيات النظام على الأحياء الشرقية في حلب، وتم تناقلها بكثافة من قبل الموالين في حلب في مواقع التواصل الاجتماعي. عززت الصور والفيديوهات التي تم نقلها من مناطق سيطرة المعارضة، من الشعور باليأس والخوف لدى الشارع المعارض، وتحديداً لدى المدنيين المؤيدين للثورة. فقد أدرك هؤلاء أن المعركة كبيرة وسيطرة المليشيات حتمية.
الاختراق.. واقع
المنسق الإعلامي بين فصائل “الجيش الحر” في حلب، يحيى مايو، قال لـ”المدن”: “حتى الآن لا يمكن أن نقول أن كل الإعلاميين الذين ذهبوا إلى مناطق سيطرة النظام في حلب، وعادوا إلى “حضن الوطن”، كما يتم الترويج، هم عملاء أو كانوا يقدمون خدماتهم باستمرار خلال الفترة الماضية للنظام”، لافتاً الى ان “عدد الإعلاميين والناشطين العاملين لدى فصائل المعارضة المسلحة في حلب، ووسائل إعلامية محلية محسوبة عليها والذين غادروها باتجاه النظام، ليس كبيراً”. لكن في الوقت نفسه، يقول مايو، “لا يمكن أن ننكر وجود هذا الاختراق”.
المنسق الإعلامي بين فصائل “الجيش الحر” في حلب، يحيى مايو، قال لـ”المدن”: “حتى الآن لا يمكن أن نقول أن كل الإعلاميين الذين ذهبوا إلى مناطق سيطرة النظام في حلب، وعادوا إلى “حضن الوطن”، كما يتم الترويج، هم عملاء أو كانوا يقدمون خدماتهم باستمرار خلال الفترة الماضية للنظام”، لافتاً الى ان “عدد الإعلاميين والناشطين العاملين لدى فصائل المعارضة المسلحة في حلب، ووسائل إعلامية محلية محسوبة عليها والذين غادروها باتجاه النظام، ليس كبيراً”. لكن في الوقت نفسه، يقول مايو، “لا يمكن أن ننكر وجود هذا الاختراق”.
وأشار مايو إلى أن النظام استفاد كثيراً من هذه الاختراقات على تنوعها. “فوجود إعلاميين ونشطاء في صفوف المعارضة يزودون النظام بالمعلومات كان له دور كبير في حسم المعركة لصالح المليشيات، وعجل في سقوط حلب بيدها، وساهم في الانهيار الدراماتيكي للأحياء واحداً تلو الآخر، طبعاً هذا العامل يضاف إلى جملة العوامل التي اتّسمت بها المعركة الأخيرة”.
ولفت مايو إلى أن المعارضة السورية بشكل عام لا تتبع أساليب أمنية، حتى في حدودها الدنيا، للتخفيف من الاختراقات في صفوفها، وبالتحديد الفصائل المعتدلة التابعة لـ”الجيش السوري الحر”.. النظام كان يحصل باستمرار على معلومات عسكرية مهمة من خلال أجهزة التنصت، والاختراقات التي أحدثها في غرف العمليات وغيرها من الغرف والمجموعات المنشأة في وسائل التواصل الاجتماعي، مثل فايسبوك، وواتس أب، وتلغرام، وغيرها، وكان لهذه التسريبات الأثر الكبير خلال الشهرين الماضيين بالتزامن مع معركة حلب”.
- المدن