هَمْهَماتٌ غريبة، تتسلّلُ عبر الجدار، تطرقُ مَسمَعي، يقتربُ الصّوت منّي أكثر، يعلو شيئا فشيئا، يتحوّل إلى صراخ، يأبى فنجانُ القهوة البقاءَ في يدي، أُضعه جانبا، وأَلْتفِتُ إلى الباب، أُحَدِّقُ النّظرَ باستغراب، يقتربُ الصّوت أكثر فأكثر، فجأةً يختفي الصّوتُ، ربّااااه ! ما هذا؟ طفلٌ في التاسعة من العمر.
يمدّ ” عمرُ ” رأسَه من الباب، ينظرُ يُمْنةً ويُسرة، ترتفعُ عيناهُ قليلاً إلى الأعلى ثمّ تُعاوِدانِ الحركةَ يَميناً وشمالا دونَ التركيزِ على نقطةٍ محدّدة، يَداهُ نَحيلتانِ، ماتزالُ آثارُ القسطرةِ الوريديةِ على ساعديه الهزيلَين، يستمرُّ بالزّحفِ على يديه ورُكْبَتَيْه، أصابعُه الصغيرةُ تَحكي لكَ حكاياتٍ من الألم والوجع التي مرّ بها.
يُعاوِدُ الصّراخَ ثانيةً، ثُمَّ يزحفُ قليلاً داخلَ الغرفةِ التي كنتُ أُجري فيها لقاءً معَ (عبودة)، تعترضُه وسادةٌ في وسطِ الغرفة، يَستلقي عليها، يَهدأُ قليلا، ثمَّ يبدأُ بالأنين.
يعاني عددٌ من الأطفال من إعاقاتٍ عقلية وأخرى جسدية في شتّى أنحاء العالم، وتشير التّقديراتُ العالمية أنّ هناك (200) مليون طفل يعانون من أحد أشكال الإعاقة.
الأطفال السّوريّون ” ذوو الاحتياجات الخاصة” حالُهم كحال أَتْرابِهم من الأطفال المعاقين، يحتاجون إلى عناية ورعاية خاصّتين، ولكن أنّ ظروفَ الحرب في سوريا جعلتْ معاناتهم أكثر من غيرهم، ولا سيّما بسبب التهجير والفقد وسوء الأحوال المادية والاجتماعية.
عمر عبد الرّزاق، (9) سنوات، إدلب/ سرمين، يعاني من ضمور عقلي (شلل دماغي)، وفشل كلوي، الأب مفقود، والأم تركت الأطفال، و غادرت المنزل مخلّفة وراءها (5) أطفال، بنتين سليمتين، و(3) أطفال معاقين.
أُرسِلَ عمرُ إلى تركيا للعلاج بتاريخ 20/ 10/ 2020، عن طريق معبر باب الهوى الحدودي، لا يوجد معه أي مرافق، قام شخص يدعى (محمد) بإيصاله إلى (دار أهل الخير للشّلل)، فبادرت إحدى قاطنات الدّار إلى تكفّله ورعايته، تشعر (فاتن) أنّ عمر هو رحمةٌ جاءتها في وقتٍ أحوج ما تكون فيه إلى القرب من الله تعالى، تعاني (فاتن) من مرض السّرطان، شاهَدَها أحد المرضى في أثناء ذهابها إلى العلاج، تقدَّم لخطبتها، وافقت، تزوّجا، أخذ نقودها، وذهَبَها، وبعد شهر ونصف طلّقها، فعادت إلى الدّار منكسرةً حزينة مخذولة.
وبعد (15) يوما من طلاقها وصل (عمر) إلى الدار، تقول فاتن: ” بحسّ عمر ابني، بطعميه، بشربو، بحممو، بعطي الدوا .. ما معو حدا .. خْطَيْ..”، وقبل أن تكمل حديثها عاود (عمر) الصراخ مجددا، سارعت إليه، حملته بين يديها، وذهبت به إلى الغرفة لإعطائه الدواء، (عمر) لا يستطيع الكلام، لا يستطيع التعبير، قد يتضور جوعا، ويتقطّع ألما، وقد يُتْخَمُ شَبَعَاً، ولا يستطيع أنْ ينطق بحرف واحد، كل ما بوسعه هو الهمهمات والصّراخ، ما أحوج (عمر) إلى أمّ، تفهم وجعه، تشعر به، تعتني به، تحتضنه، وتمسح شعرَه، تقبّله، وإنْ كان لا يعي ما يدور من حوله، فلمسة الأمّ الحنونة شفاءٌ لأوجاع أولئك المساكين، وربّما كانت (فاتن) أيضا رحمةً ساقها الله سبحانه إلى (عمر).
في الغرفة المجاورة لـ (عمر) يقطنُ (عبدالله الشّامي)، (10) سنوات، من حمص، وُلد (عبودة) ومعه قيلة نخاعية سحائية، وهي شقٌّ مفتوح في العمود الفقري، وأحد أنواع شلل الحبل الشوكي، يعاني (عبودة) أيضا من شلل في الأطراف السّفليّة، والرّبو، وتقوّس في العمود الفقري يسبب له آلاما وتقرّحات.
تقول والدته: “دخلنا تركيا لعلاجه من سنتين، نروح عالمشافي ليقرّروا العملية، و مازلنا مستنّين، ساوينا له عمليات بالشّام، و ركّبنا له شنط (أنبوب) بالدماغ، وسكّرنا له الفتحة اللي بظهره، ولازمه الآن عمليّة لتقوّس العمود الفقري ضروري”.
بينما تتحدّث معنا والدته، نظر إلينا (عبودة) وهو جالس على كرسيّه المتحرك، يا لَهُ من طفلٍ!، أبيض الوجه، أكحل العينين، طويل الشّعر، باسم المحيّا، أشعرَتْني ابتسامته بالتقزّم، يا الله! كيف لأولئك أن يبتسموا بهذا الشّكل الجميل على الرغم من كلّ تلك المآسي والآلام .
وزادت دهشتي أكثر حين سألته عن أمنيته في الحياة فأجابني: “أتمنى أصير دكتور عظميّة وعصبيّة”، توقّفت عن الكتابة، نظرت في عينيه، اختلطتْ فيَّ المشاعر، ابتسمت في وجهه، وسألت الله أن يحقِّقَ له أمنيته، و غادرت .. .
بقلم : ظلال عبود