صحيفة الحياة
إنطلق الربيع العربي لتحقيق أهداف محلية محدودة تتعلق بتحسين ظروف الحياة وإنهاء حالة الاستبداد والفساد داخل حدود دُولِه، ولكن تحركات الشعوب الغافلة عن السياق التاريخي العام والتحولات الدولية التي بدأت مع انهيار الاتحاد السوفياتي لم تكن تتوقع أن تؤدي تحركاتها إلى تداعيات ذات مدى بعيد وتغيرات عميقة في الوضع الإقليمي وارتداداته الدولية.
ثمة اليوم خمسة مشاريع لإعادة ترتيب الأوراق السياسية في المنطقة، تتمركز في خمس عواصم: طهران وأنقرة وأربيل والرياض والقاهرة. هذه المشاريع متناقضة لأنها في مجملها تقدم بعد الهوية القومية والعقدية على بعد القيم والمبادئ الإنسانية التي تقوم على أساسها التجمعات الحضارية الواسعة.
تزايد حدة الصراعات القومية والطائفية نتيجة حالة الغليان الشعبي في بلدان الربيع العربي أوجد ظروفاً شجعت أصحاب المشاريع الخمسة للمضي في تحقيق أهدافهم، وفتح الباب على مصراعيه أمام القوى الدولية، التي تميل إلى المشروع الذي يمثله محور القاهرة، إلى اللعب على الاختلافات القومية والطائفية في المنطقة. تركيا التي سعت جاهدة إلى تحجيم التناقضات وتطوير تفاهمات إقليمية تحصن المشرق من التأثيرات الخارجية تجد نفسها اليوم في قلب المعمعة.
المشرق مقبل على مرحلة طويلة من القلاقل والصراعات التي يصعب الآن التنبؤ بمآلاتها، ولكنها بالتأكيد ستعيد تشكيل الخريطة السياسية لبلدان المشرق، وستفتح الباب لظهور قوى جديدة ما زالت حتى الآن مغيبة تحت ثقل المنظومة السياسية التي رسمت في أروقة عصبة الأمم في مطلع القرن الماضي.
لكن خلافاً للخريطة السياسية التي رسمت في قلب أوروبا في القرن المنصرم فإن الخريطة التي ترسم اليوم تقوم على مشاريع تصنع في أغلبها داخل حدود المشرق. هذا يعني أن التطورات السياسية الجارية تسير في منحى معاكس تماماً لما جرى قبل قرن لأن مركز الهزات التي تتوالى اليوم يقع في قلب المشرق في حين ستظهر ارتداداتها داخل المنظومة الدولية المهيمنة، وسيتناسب حجم الارتدادات طرداً مع قوة وعمق الهزات التي تعيشيها شعوب المشرق.
الاهتزازات العميقة والشديدة التي تواجه القوى السياسية في دول المشرق أكبر من أي منها، والوصول إلى صيغ تخدم مصالح الشعوب يتطلب من القيادات الشعبية الارتفاع فوق المصالح الآنية الضيقة، وهو أمر ما زال عصيا على الجميع. المطلوب العمل على تحقيق دولة القانون التي تحمي الجميع، وتتساوى تحتها الشعوب، بدلاً من المضي لتحقيق مشاريع حصرية ستؤجج الصراع إلى عقود. السعي لتحقيق رؤية جامعة للتنوع المشرقي واجب على الجميع لأنه واجب وطني وقومي وديني وإنساني.