الحفاظ على العلاقة
وبينما كان الاتحاد الأوروبي يعمل من أجل المزيد من الاندماج، من خلال توسيع عضوية الدول، والعملة الموحدة، وحرية تنقل الناس، تم دفع تركيا بعيدا. واستمر هذا الوضع الغريب لبعض الوقت. ومع ذلك، وعلى الرغم من الأجواء السياسية الباردة، استمر التفاعل في المجالات الأخرى بين الجانبين، حيث تعد تركيا حاليا سادس أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، إذ يذهب 40% من حجم تجارتها إلى الاتحاد الأوروبي،هو الشريك التجاري الأول والمستثمر الأول في تركيا.
على أن القوة الدافعة لأي ترشيح تكمن في عملية الانضمام للعضوية. وبحلول منتصف عام 2010، انقضت مدة الفصول التفاوضية المتبقية التي كان من الممكن فتحها بسبب العقبات السياسية. وبوصفها الوصي على معاهدات الدول الأعضاء والتزاماتها ،حاولت المفوضية الأوروبية قصارى جهدها لوضع خطة لإبقاء الأمور قائمة. واقترحت أخيرا ما يسمى بـ”جدول الأعمال الإيجابي” الذي قبلته تركيا. وقد استتبع هذا البرنامج إجراء محادثات بشأن الفصول المتعلقة بالمستوى التقني، من أجل إعداد تركيا لإمكانية بدء المفاوضات بسرعة، حالما يتغير الوضع السياسي.
واكتسبت التطورات قوة من المفوضية الأوروبية الجديدة والمجلس الأوروبي في أواخر عام 2014. كان الاتحاد الأوروبي يكافح من أجل تحقيق توازن مع تركيا. وكانت العلاقة غارقة في العقبات السياسية، ولم يكن هناك توافق في الآراء بشأن كيفية المضي قدما. وعلاوة على ذلك، عندما أوضح رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، أنه لن يكون هناك توسيع للاتحاد حتى نهاية ولاية اللجنة في عام 2019، فإنه بذلك لم يضعف تطلعات تركيا فحسب، بل أضعف أيضا طموحات جميع المرشحين الآخرين. وبذلت جهود لإعادة تنشيط العلاقة، لكنها لم تحقق شيئا جوهريا.
كان أزمة الهجرة هي الحدث الذي غير قواعد اللعبة. وعلى الرغم من أن تركيا كانت تبذل قصارى جهدها في التعامل مع الملايين من السوريين الفارين من الحرب الأهلية في سوريا، لم يكن هناك سوى القليل من المساعدة الدولية – على الرغم من سيل الزوار الذين قدموا على تركيا يباركون جهودها. عندما ازداد عدد المهاجرين الذين يتدفقون إلى الاتحاد الأوروبي وأصبحوا كالفيضان الجارف، طلب الاتحاد الأوروبي المساعدة من تركيا، وإن كان على خجل، لحل هذه المسألة. كان الاتحاد الأوروبي يواجه أزمة ليست من صنعه، ويحتاج إلى مساعدة من طرف ثالث. واعتبرت تركيا ذلك فرصة لإعادة تقييم العلاقة وإعادتها إلى مسارها.
كانت الفترة بين أيلول/ سبتمبر 2015 وحزيران/ يونيو 2016 استثنائية، حيث أصبح الاتصال بين تركيا والاتحاد على جميع المستويات أمرا مألوفا. وقد أدى هذا الوضع إلى زيادة الحوار بين الطرفين. وخلال أربعة أشهر فقط عقدت ثلاثة مؤتمرات قمة مع جميع الأعضاء الـ 28. زارت المستشارة الألماني تركيا عدة مرات، وعقد الاتحاد لقاءات مع الوفد التركي الدائم لديه في بروكسل انتهى بالتوصل إلى اتفاق مع رئيس الوزراء التركي بشأن أزمة الهجرة.
انتقد كثيرون ما تم تحقيقه من خلال هذه الصفقة كونها غير أخلاقية وغير قانونية، ونسي هؤلاء ما إن الاتفاق نجح في وقف تدفق اللاجئين، والأهم من ذلك، أنه أنقذ أرواحا كان من الممكن أن تفقد في رحلات بحرية محفوفة بالمخاطر.
ولم يقتصر البيان الصادر عن الاتحاد الأوروبي وتركيا في 18 مارس / آذار 2016 على مسألة الهجرة، ولكنه شمل طائفة واسعة من مجالات التعاون والتقدم، بما في ذلك عملية الانضمام. والنتيجة هي صورة مختلطة، لأن الاتحاد الأوروبي لم يتمكن من الوفاء بمعظم وعوده. وعلى الرغم من فتح فصلين (كانت فرنسا قد منعتهما من قبل) وبدء بعض الأعمال التحضيرية، فما تزال هناك عقبات سياسية. وعلاوة على ذلك، فإن المساعدات المالية التي قدمها الاتحاد الأوروبي للاجئين السوريين في تركيا كانت بطيئة وتصل متفرقة. وتقرر أنه بمجرد إغلاق المعابر غير النظامية أو تخفيضها بشكل كبير ودائم، أن يبدأ مخطط إعادة التوطين الطوعي المأمول. لكن، وبعد مرور عام، لم يتحقق ذلك بعد.
كما اتفق الجانبان على رفع مستوى الاتحاد الجمركي ليشمل الخدمات والمشتريات العامة والسلع الزراعية. ومن المتوقع أن تبدأ المفاوضات هذا العام، على الرغم من أنها سوف تستغرق عدة سنوات لاستكمالها. ومن المحتمل أن يتضاعف حجم التجارة بين تركيا والاتحاد الأوروبي.
آثار محاولة الانقلاب الساقط
ومثلما أدى اتفاق الهجرة إلى تقريب الجانبين، فإن محاولة الانقلاب الساقط التي وقعت في 15 يوليو/ تموز وما أعقبها كان لها تأثير سيئ يؤسف له. أولا، كان الانطباع بأن الاتحاد الأوروبي كان ينتظر إلى حد كبير النتيجة قبل أن يتفاعل؛وهذا التردد الأولي لم تقبله تركيا. جاءت أول زيارة على مستوى عال من الاتحاد الأوروبي بعد حوالي شهرين من محاولة الانقلاب، حين زار رئيس البرلمان الأوروبي تركيا. وقدم بعض زعماء الاتحاد الأوروبي دعما أوليا، لكنه بدا فاترا ولم يتغير التصور.
ثانيا، بينما كانت تركيا على استعداد لطي صفحة الانقلاب،ساهم رد فعل الاتحاد الأوروبي تجاه تدابير تركيا بحق من شاركوا في محاولة الانقلاب أو دعم منظمة فتح الله الإرهابية (FETÖ) في زيادة توتر العلاقة. وذهب البرلمان الأوروبي إلى حد الدعوة إلى وقف محادثات الانضمام التي كانت قائمة بالفعل. وبالتالي فإن الانزلاق البطئ نحو تدهور العلاقات اكتسب سرعة.. كما حدث تجاذب لفظي عنيف بين الجانبين فى الأسابيع التي سبقت الاستفتاء الدستوري فى تركيا، في وقت أجريت فيه الانتخابات فى بعض دول الاتحاد الأوروبي.
ومن ثم، فإننا في منعطف يحتاج فيه الجانبان إلى مناقشة صادقة بشأن كيفية المضي قدما. أن الطرفين بحاجة إلى بعضهما بعضا، على الرغم من أن ذلك قد ينسى أحيانا. بيد أن أهم تطور يكمن في حل مشكلة قبرص. ولم تكن الطائفتان الرومية والتركية في الجزيرة أقرب إلى أي تسوية. وينبغي أن لا تضيع هذه الفرصة، وينبغي أن يحافظ الجانبان على الزخم الحالي. إن حل المشكلة القبرصية سيكون تغييرا حقيقيا لقواعد اللعبة في جميع المجالات، ومن شأن ذلك أن يؤثر إيجابيا ليس فقط على شعب الجزيرة ككل، بل أيضا على العلاقات التركية اليونانية، وشرق البحر المتوسط، والعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، فضلا عن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. نحن جميعا بحاجة إلى قصة نجاح، وهذا ينطبق بشكل خاص على مسألة عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.
مستقبل الاتحاد الأوروبي وتركيا
يحتاج الاتحاد الأوروبي – الذي يواجه أزمة تلو الأخرى – إلى إعادة تأسيس لطبيعته التي كانت حتى وقت قريب تطلعية وناجحة وجذابة لكثير من بلدان المنطقة، ذلك أن القوة المعقودة للاتحاد الأوروبي في الماضي، لم تكن تقتصر على قضايا التجارة فحسب، بل كانت قادرة أيضا على تحذير الدول الأعضاء، إذا رأى أنها تبتعد عن الديمقراطية. والواقع أن الاتحاد الأوروبي يلتزم بالقيم العالمية على العديد من المستويات.
وعندما نعود إلى الوراء، وننظر إلى نجاح السوق الموحدة، وإقامة العملة الموحدة، والتنقل الحر، والتوسع، نرى الآن أن دول الاتحاد تواجه تحديات. يجب على الاتحاد الأوروبي أن لا ينظر إلى الداخل ولكن إلى الصورة الأكبر. هز خروج المملكة المتحدة المتوقع صورة الاتحاد الأوروبي، ولأول مرة يتوسع الاتحاد في الاتجاه العكسي. وبالإضافة إلى ذلك، أدى التوسع إلى تفاقم عيوب الهياكل القائمة. أصبح الحديث الأكاديمي عن ” أوروبا متعددة السرعة” بين الدول الأعضاء أمرا ممكنا في الوقت الراهن. ربما كانت العبارة الدارجة القائلة إن الاتحاد الأوروبي يقوى بعد كل أزمة صحيحة عندما تكون هناك أزمة واحدة فقط تضرب الاتحاد.بيد أنه في السنوات القليلة الماضية جاءت التحديات من كثير من المجالات التي يملك الاتحاد الأوروبي سيطرة ضعيفة عليها أو لا يملك سيطرة مطلقا: الأزمة المالية الأمريكية التي امتدت إلى أزمة اليورو وما تزال مستمرة في اليونان، وأزمة الهجرة، وضم روسيا لشبه جزيرة القرم،وغزو أوكرانيا. وقد أرهقت هذه القضايا الاتحاد الأوروبي في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تسوية البيت من الداخل.
ستستمر هذه التحديات في المستقبل المنظور، وقد تنشأ حالات أخرى،مثل موقف روسيا من جيرانها، معضلة الهجرة،وقضية الشرق الأوسط التي لا تنتهي أبدا، ومكافحة الإرهاب، وصعود اليمين المتطرف. وكل ذلك يتطلب تعاونا أوثق فيما بين الأعضاء. والحق أن هناك دلائل متزايدة على الانقسام لا تبشر بالخير. وعلاوة على توحيد جهود الدول الأعضاء، هناك حاجة إلى علاقة أقوى مع الدول المرشحة.
ما تزال تركيا، بوصفها دولة مرشحة، تؤمن بالمثل العليا للاتحاد الأوروبي، وهو خيار استراتيجي دعمته الحكومات التركية السابقة والحالية. بيد أن الزمن يتغير، ولم تعد تركيا ولا الاتحاد الأوروبي مثلما كانا قبل عشر سنوات. سيركز الاتحاد الأوروبي على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي خلال العامين المقبلين، في حين تواجه تركيا تحديات متعددة في جوارها وما وراءه. ويبقى إن حاجة أحدهما للآخر هو أمر حقيقي لا مجال للشك فيه. لذلك حان الوقت لأن نجلس ونقيم – دون أن نلوم بعضنا بعضا – كيفية التغلب على انعدام الثقة المتزايد، والتوصل إلى تفاهم من شأنه أن يكون خاليا من الضغط، وتجنب التوقعات غير الواقعية.
ترك برس