لا يهدف الخبر الذي سرّبته المخابرات السورية لصحيفة لبنانية موالية، عن وجود عسكري مصري إلى جانب قوات بشار الأسد، إلى إحراج نظام عبد الفتاح السيسي، فالرجل كان قد أعلن، بالفم الملآن، أنه يدعم “الجيش” السوري ضد من أطلق عليهم تسمية “القوى المتطرّفة”، والتي ليست سوى فصائل الثوار، بدليل أن جغرافية تحرّك المستشارين العسكريين المصريين لم تكن في الرقة حيث “داعش”، بل في درعا وحماة.
وكان السيسي قد طرح، في وقت سابق، ما سماها “رؤية” للحل في سورية، وهي خلطة من مصطلحات خشبية عن الدولة والمؤسسات والحل السلمي، وضعها مستشاروه الحاذقون الذين فاتهم رؤية أن في سورية أيضاً شعباً يجري ذبحه بدم بارد وبكل أنواع الأسلحة، وأحط الأساليب العسكرية، وأنها أيضاً تشهد عملية تطهير ديمغرافي لشعبها، وفق خطّة إيرانية معلنة وصريحة.
ليس موقف السيسي منفصلا أو طارئاً عن سياقاتٍ مصرية في هذا الخصوص، ثمّة حملة شرسة، تقودها مراكز أبحاث وصحف ومواقع إلكترونية، داخل مصر، أو يديرها خبراء مصريون في الخارج، على الثورة السورية والربيع العربي الذي جاءت في إطاره، وتدّعي وجود مؤامرةٍ على الجيوش “الوطنية” تحديداً، وتلمّح إلى وقوف أطراف عربية وراءها، بل وصل الأمر بها إلى القول إن الشعوب العربية لا تليق بها الديمقراطية، وإن تأييدها الإستبداد والقهر موقف عقلاني (!).
أي جيش سوري ذلك الذي يتحدّث عنه السيسي ويريد دعمه؟ لقد فكّك نظام الأسد بنى ذلك الجيش، حتى قبل الثورة، وزوّر عقيدته، وحوّله إلى مليشيا مافياوية طائفية، همّها الأساسي، وباعتراف إعلام نظام الأسد نفسه، سرقة بيوت السوريين، بعد قتلهم أو تهجيرهم، والمفترض أن خبراء مصر العسكريين الذين يفهمون معنى مؤسسة الجيش أنهم على إطلاع فعلي على الوقائع، وأكثر دراية بالحقائق الساطعة.
لم يعرف عن السيسي أنه رجل مبدئي، لديه مواقف متماسكة، ومنظومة قيمية، بدافع عنها. هذا الأمر خارج النقاش، حتى قبل تسجيلات الرز الشهيرة، وليست لديه نوازع قومية. لم يدّع السيسي نفسه يوماً أنه قومي، ولا تختلف سورية بالنسبة له عن الإكوادور أو نيبال. عدا عن ذلك، وعلى فرضية أن السيسي يذهب إلى سورية مدفوعاً بحسّه العربي، فلا شك أنه يصرّف نوازعه في المكان الخاطئ، ذلك أن بشار الأسد أعلن طلاقاً بائنا مع العرب والعروبة، وبات إعلامه يصفهم بالعربان الذين يشربون بول البعير! وأنه ومؤيديه ينتمون لحضارات تاريخية سالفة، اعتدى عليها الأعراب وشوهوها.
ثم ما المقصود بإبراز أن تحرّك مستشاري السيسي العسكريين يجري في إطار الجبهة الجنوبية، والمعلوم أن هذه الجبهة تحت سيطرة تحالف عربي؟ لماذا لا يهتم السيسي بدمشق، وهي رمز عربي، وهذه المدينة تكاد تتفرّس (تصبح فارسية) أو في منطقة القلمون التي تم تهجير ملايين السكان منها لتحويلها إلى جسر عبور إيراني إلى لبنان، أو حتى حلب، حيث تطبق مليشيات إيران الحصار على 300 ألف من سكانها العرب، وتهدّد بإبادتهم جهاراً نهاراً، إذا كانت خلفيات تحرّك السيسي عربية قومية؟.
من جهة ثانية، لم يعرف عن السيسي أنه استراتيجي لديه حساسية عالية تجاه الجغرافيا السياسية، حتى يفكر في تحقيق أحزمة أمان لمصر، بدليل أنه لم يهتم بأصول مصر الإستراتيجية، أمن البحر الأحمر المرتبط بأمن قناة السويس، والذي تعمل إيران على انتهاكه. وكانت مفاوضاته مع إثيوبيا بشأن حصة مصر من مياه النيل قد كشفت حجم العطب في التفكير الإستراتيجي، ليس لدى السيسي وحده، بل ولدى النخبة الانقلابية المصرية بكامل عدّتها الفكرية والسياسية والعسكرية. أما اهتمامه بالملف الليبي، فيأتي خارج هذه السياقات تماماً، ولا يؤشر إلى وجود بعد إستراتيجي لديه، فهو يقارب الحالة الليبية بوصفها احتياطي “رز” لنظامه ليس إلا.
والواقع أن وجود السيسي، عنصراً عسكرياً، في سورية لا يشكّل إضافة مهمّة للأسد. وفي الأصل، لا الروس ولا الإيرانيون ولا حزب الله يقبلون منحه دوراً مهماً، ولا حتى يثقون به، كما أن بشار الأسد يعرف أنه لا يملك الصلاحية، ولا القدرة لتوزيع أدوار الأطراف التي تقاتل في سورية. مسرح الحرب تديره إيران وروسيا، ولا أمكنة شاغرة لديهما للجيش المصري. القضية بإختصار أن السيسي يتجحّش مع الأسد للضغط على السعودية، لإعادة الارتباط به بعد الطلاق البائن، وأن الأسد يتجحّش بالسيسي، لكي يتبجّح بأن أكبر الدول العربية تقف معه، وسيبارك إعلام المجحّشين هذه العملية التي ستلد، برأيهم، السيف الذي سينقذ حاضر الأمة، مع أن السيف الوحيد الذي يحمله السيسي والأسد مصوّب على خاصرة الأمة.
من حق العرب أن يحزنوا على وقع مثل هذه الأخبار، ليس على شعب سورية الذي بالأصل تتكالب عليه قوى الشر، ولن تعمل قوات السيسي سوى إضافة بعض الألم على جرحه، بل الحزن على الجيش المصري الذي يُراد زجّه في مقتلةٍ قذرةٍ ليصطف إلى جانب مليشيات إيران في قتل أطفال سورية، أيّ شرف ذلك الذي يريد السيسي إكسابه لجيش مصر، أن يكون شاهد زور على اغتصاب سورية حتى الموت؟ هل من يخبر السيسي أن تلك فضيحة أخلاقية، نربأ نحن العرب أن يتم لصقها بجيشٍ خرج من صلبه جمال عبد الناصر.
العربي الجديد – غازي دحمان