ما زال بعض المساكين أو مناصري الطغاة وأبواقهم يتحسرون على الأيام الخوالي قبل موجة الربيع العربي، ويهاجمون كل من شارك في الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة الساقطة والمتساقطة أو شارك فيها، كأن الذي حدث كان مجرد غلطة يمكن تجنبها. هل سمعتم بمقولة المفكر والفيلسوف الألماني الشهير هيغل: «دهاء التاريخ»؟ باختصار شديد فإن حركة التاريخ أذكى بكثير وأكثر دهاء من مخططات الدول وأحلام البسطاء. قولوا ما تشاؤون عما حدث في بلاد الربيع العربي على مدى التسع سنوات الماضية. قولوا إنها كانت انتفاضات مفتعلة ومدبرة من قوى كبرى كي تعيد رسم حدود المنطقة وإعادة تكوينها واستنزاف ثرواتها والتلاعب بديموغرافيتها وتنفيذ مشروع الفوضى الخلاقة الهلاكة. قولوا إن الماضي كان أفضل من حاضر الخراب والدمار والتهجير. من حقكم أن تبكوا وتتحسروا على ما قبل الثورات، لكن دموعكم لن تغيّر شيئاً. لا شك أن الشعوب خسرت الكثير على صعيد أمنها ورزقها وحياتها، وهذا مؤسف ومحزن جداً، لكن عجلة التاريخ لا ترحم أحداً، سواء كانت تدفعها القوى الكبرى وسادة العالم من أجل مصالحهم الخاصة، أو كانت نتيجة طبيعية لحركة المجتمعات والشعوب وأخطاء الأنظمة.
تعالوا الآن ننسى الذي حصل ونستشرف المستقبل. أين نحن ذاهبون بعد كل هذا الخراب والدمار؟ هل تعود الشعوب إلى زرائب الطاعة وتقبل بأقل ما كانت تحصل عليه قبل اندلاع الثورات أو الفورات سمّها ما شئت؟ هل تحلم الأنظمة القديمة بأن تعود وتسيطر بالطريقة البائدة؟ البعض سيقول نعم بدليل أن النظام المصري الجديد يجعل المصريين يترحمون على حكم حسني مبارك وخاصة على صعيد الحريات، وبدليل أن لا شيء تغيّر حتى في تونس التي يعتبرها البعض أنجح نموذج في «الفورات العربية». هذا الكلام قد يبدو صحيحاً على المدى القصير جداً، لكنه لا يستقيم مطلقاً مع حركة التاريخ أو دهاء التاريخ بالمفهوم الهيغلي. قد يستمر الوضع في البلاد التي عادت إلى الحكم العسكري لبضع سنوات، وهذا طبيعي جداً، فلا ننسى أن الشعب في رومانيا عاد إلى حكم جماعة تشاوسيسكو الذي أعدمه الشعب لأكثر من تسع سنوات بعد سقوط النظام الشيوعي الفاشي، لكن أين رومانيا اليوم من رومانيا تشاوسيسكو؟ إنها دولة جديدة تماماً وشعب آخر تماماً. من السخف البكاء على الأطلال في سوريا والعراق وليبيا واليمن. صحيح أن الذي حصل رهيب بكل المقاييس التاريخية، لكن بلداناً كثيرة مرت بتجارب مماثلة وقد نسيت الماضي، وبنت دولاً ومجتمعات جديدة. وعندما بحثت في غوغل كيف نهضت رواندا من واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العصر الحديث، وجدت العناوين التالية وكلها عناوين تبعث الأمل في قلوب الشعوب التي تمر الآن بتجارب مشابهة. «كيف نهضت رواندا من أنقاض الإبادة الجماعية»…»رواندا من الإبادة الجماعية إلى وطن المعجزات»…»كيف نهضت رواندا من رماد الحرب الأهلية لتصبح الأنظف في أفريقيا؟» «رواندا من جحيم الحروب الأهلية إلى نعيم الاقتصاديات الأفريقية»…هذه فقط بعض العناوين التي تتحدث عن رواندا الحديثة التي كانت مضرباً للمثل في الحروب الأهلية والخراب والدمار والتهجير في العصر الحديث. هل تتذكرون المذابح التاريخية بين الهوتو والتوتسي حيث قتلت القبيلتان المتحاربتان من بعضهما البعض حوالي مليون شخص في تسعينات القرن الماضي، أي في الأمس القريب. لكن ها هي رواندا وقد عادت مجدداً إلى واجهة الأحداث مؤخراً، ولكن بشكل مغاير تماماً، بأن أصبحت الوجهة السياحية الأولى في وسط أفريقيا، وتبوأت العاصمة كيجالي مكانة متميزة بوصفها «أنظف مدينة في أفريقيا». وتقول صحيفة «الغارديان» البريطانية إن سكان كيجالي يشعرون بالفخر لأن مدينتهم أنظف من نيويورك ولندن، وإنه كثيراً ما يتم تصنيفها ضمن الأنظف في العالم بعد مدن مثل وارسو واستكهولم وسنغافورة.
يكفي إلقاء نظرة على تطور الناتج الداخلي الخام في رواندا لنلاحظ تطور هذا المؤشر عشرة أضعاف في غضون 13 سنة، فبعدما كان لا يتعدى 900 مليون دولار سنة 1994، أصبح يناهز 9.14 مليار دولار سنة 2017. كما أن الاقتصاد الرواندي يعد من أكثر الاقتصادات الإفريقية نمواً، ما مكن الروانديين من رفع تحدي عدم الاعتماد على المعونات الخارجية والاعتماد على اقتصاد البلاد. وتعد رواندا حالياً قبلة للعديد من المستثمرين الكبار، فالبلد يقدم مناخاً آمناً للاستثمار، حيث تُؤسس في رواندا أكثر من 10 آلاف شركة سنوياً، علماً أن إنشاء شركة لا يتطلب سوى ملء استمارة على موقع إلكتروني بتأطير من موظفي مجلس التنمية الرواندية، واصطحاب بطاقة تعريف وتحديد اسم الشركة.
لقد نجحت رواندا في مسح ذكريات الحرب الأهلية الرهيبة التي كانت حديث الإعلام العالمي قبل عقدين من الزمان فقط. فلماذا لا نقول إن الدول العربية التي مرت وتمر الآن بتجارب مشابهة يمكن أن تنهض من جديد؟ لا يحلمن أحد من جماعة العهود القديمة في تونس ومصر وسوريا واليمن وليبيا والعراق أن يعيدوا عقارب الساعة إلى الوراء مهما حاولوا ومهما دعمتهم قوى الشر في العالم، وحاولت إعادة الشعوب إلى زرائب الطاعة ونهب ثروات وخيرات بلادها كما تفعل السعودية والإمارات وإيران وروسيا وأمريكا وفرنسا وإيطاليا وتركيا في بلدان الثورات. صحيح أن القوى الكبرى عملت المستحيلات على منع التغيير في بلادنا وجعلوا الشعوب تتحسر على أيام الطغيان الخوالي، لكن هيهات أن يطول هذا الزمن. هل استقرت الأوضاع للاحتلال الأمريكي والإيراني في العراق؟ أم أن العراقيين نهضوا من جديد ضد الغزاة الإيرانيين؟ هل يمكن أن يقبل العراقيون أن يعودوا إلى حظائر الملالي، أم إنهم سيواصلون الانتفاضة حتى يحققوا أهدافهم والنهوض ببلدهم؟
هل يعتقد الاحتلال الروسي والإيراني والأمريكي في سوريا أنه سيظل يتحكم بالساحة السورية لصالحه وصالح النظام لوقت طويل؟ مستحيل. لن يهدأ الميدان السوري مطلقاً حتى يستعيد السوريون حريتهم ويعيدوا بناء بلدهم كرواندا على أقل تقدير. وإذا عادت رواندا إلى الحياة خلال أقل من عقدين من الزمان، فإن السوريين تحديداً قادرون على إعادة إعمار بلدهم وإرساء أسس نهضة جديدة خلال أقل من ذلك بكثير بعد التخلص من نير الاحتلال الأسدي وشركائه الروس والإيرانيين والأمريكيين. ومهما حاول حفتر أن يعيد الليبيين إلى الحظيرة القذافية القديمة لن يفلح مطلقاً، فهو يسير عكس عجلة التاريخ وطموحات الشعب مهما دعمته الرجعية العربية بالمليارات.
وإذا كان اليمن مقبرة الأناضول أحد أقوى أنواع الاستعمار في التاريخ، ألا وهو الاستعمار العثماني، فهو بالتأكيد قادر طال الزمن أو قصر أن يكسر قيود الغزو السعودي والإماراتي والإيراني ويلحق بعجلة التطور والنهوض.
باختصار شديد فإن الزمن الأول تحول، وإن الأجيال الصاعدة ليست كالأجيال التي حكمها القذافي وحافظ الأسد وصدام حسين وعلي عبد الله صالح وحسني مبارك وسواهم. هذه أجيال وعقول مختلفة. هذه أجيال الانفتاح على العالم من خلال وسائل التواصل الحديثة التي صنعت من كل شخص يحمل جهاز موبايل ناشراً وعضو برلمان.
فقط قارنوا أبناءكم بأنفسكم الآن، وستجدون كيف أنهم كائنات لا علاقة لها بكم مطلقاً. هذه أرواح متمردة ناهضة لن تقبل أبداً أن تعيش كما عشتم، لأنها مسكونة بروح الزمن الجديد مهما حاولوا إخضاعها وترويضها وتركيعها. لن يفلحوا ولا بد أن يخضعوا لها طال الزمن أو قصر. إنه دهاء التاريخ.
القدس العربي _ فيصل القاسم