بداية هذا العصر الجديد الذي يتطلب من كل دولة أن تضطلع بمهمة حماية نفسها، قد تشكل فرصة ملائمة لإطلاق مشروع رفع القدرات العسكرية والأمنية للاتحاد الأوروبي.
في وقت تعيش فيه القارة الأوروبية مجموعة من الأزمات الاقتصادية والسياسية غير المسبوقة منذ تأسيس الاتحاد الأوروبي، جاء انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب كإعلان لعهد جديد يستدعي إنهاء الاعتماد على القوة الأميركية، ومواجهة تحدي الأمن والدفاع بصورة منفردة. ما بدا قبل أشهر كمرشح رئيسي متهور وذي حظوظ شبه معدومة للفوز بالانتخابات وصل إلى البيت الأبيض. الأدهى أن نسخة المرشح الرئاسي تبدو ذاتها نسخة الرئيس، إذ يبدو ترامب عازما على تحويل كل ما تفوّه به في حملته الانتخابية إلى واقع.
لم يكن قد مضى يومان على تسلمه منصبه حتى أعاد ترامب التشكيك في أهمية حلف شمال الأطلسي “الناتو” كما كان قد فعل في حملته الانتخابية. ويعتبر حلف الناتو الاستراتيجية الدفاعية الرئيسية للاتحاد الأوروبي، ولكنها استراتيجية تعاني من عيب خطير، وهو اعتمادها الكبير على الولايات المتحدة الأميركية. إذ يقدر وجود نحو 80 ألف جندي أميركي ينتشرون في القارة الأوروبية مع مختلف أنواع المعدات العسكرية ويشكلون العمود المركزي لحلف الناتو.
في يوم تنصيبه، كان ترامب واضحا بشأن القاعدة الرئيسية لسياساته الخارجية حين قال “أميركا أولا”. ويعد هذا الخطاب بمثابة انقلاب على لغة التعاون والأمن المشترك لليبرالية التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية. لم يكن جميع رؤساء الولايات المتحدة ليبراليين، غير أن أشد المحافظين منهم التزموا خطاب التعاون وتجنبوا الخوض في شعار “أميركا أولا”.
ربما نكون أمام عصر جديد ذلك الذي يدشنه ترامب، أو أمام استعادة عصر بدا وكأنه صار من الماضي. عصر تم فيه تقديم المصالح القومية للدولة والدخول في حروب من أجل تحقيقها. عصر يتجاهل مبادئ التعاون رغم تعزز تشابك النظام العالمي. في هذا العصر يهدد ترامب بسحب مبدأ الحماية المشتركة التي يمثل الناتو أساسها، لتعمل كل دولة على حماية نفسها. يقوض هذا المبدأ الرئيسي للاتحاد الأوروبي، القائم على الأمن الجماعي والاقتصاد المشترك.
بدأت أميركا عصر التراجع والتخلي عن دور الشرطي العالمي الذي يدير أزمات العالم ويمنع امتداد حرائقها لأوروبا مع باراك أوباما. وهو ما ظهر خلال الأزمة السورية وفيضان الملايين من اللاجئين الذين تحولوا إلى “أزمة”. شكلت قضية اللاجئين أكبر أزمات القارة الأوروبية خلال الأعوام الماضية واعتبرت بمثابة تهديد للأمن الأوروبي.
لدى أوروبا أزمة الإرهاب الذي يضرب أراضيها بصورة متواترة، وتحديدا تنظيم داعش الذي نجح في تنفيذ هجمات إرهابية في مدن أوروبية عديدة. الأزمة تتمثل في عدم وجود آلية أمنية ودفاعية لوقف التهديد الذي يشكله داعش. وعلى الرغم من أن إنهاء ذلك التهديد يتطلب حلولا سياسية واقتصادية، ولكن الحل يقع حاليا، وعلى صعيد عالمي، ضمن سياق الاستراتيجيات الدفاعية والأمنية والحرب على الإرهاب بصورة عامة.
الخطر الأكبر على المدى المتوسط والبعيد يأتي من روسيا الجديدة. لم يكن اندفاع روسيا للتوسع في محيطها على هذا القدر منذ انهيار الاتحاد السوفييتي. لا يقتصر التهديد الروسي على تغيير الأنظمة في دول الاتحاد السوفييتي سابقا، بل تطور إلى عدوان مباشر واحتلال مناطق في أراضٍ مجاورة وتغيير الخرائط التي تم الاتفاق عليها منذ زمن بعيد.
وبالكاد كان الاتحاد الأوروبي يتعافى من صدمة انتخاب دونالد ترامب حتى جاءت الصدمة الثانية والمتمثلة في أن الرئيس الأميركي عازم على تنفيذ وعوده الانتخابية ومنها ما يتصل بحلف الناتو. هنا تواجه أوروبا مأزق العصر الجديد بقدرات دفاعية شديدة التواضع كما بدا في أكثر من مناسبة. خلال التدخل العسكري على ليبيا عام 2011، عزمت أوروبا على الاضطلاع بدور قيادي، ولكنها ولضعف إمكانياتها العسكرية، وجدت نفسها مضطرة للاعتماد على الولايات المتحدة. انكشف النقص الفادح في المعدات العسكرية لدى الاتحاد الأوروبي، وخصوصا حاملات الأسلحة الثقيلة وطائرات التزويد.
يرى محللون أوروبيون أن بداية هذا العصر الجديد الذي يتطلب من كل دولة أن تضطلع بمهمة حماية نفسها، قد تشكل فرصة ملائمة لإطلاق مشروع رفع القدرات العسكرية والأمنية للاتحاد الأوروبي. لم يعد ممكنا أن تكتفي أوروبا بقوتها الاقتصادية وما يسمّى بالقوة الناعمة. إنها مناسبة جيدة لتصحيح المسار الذي كانت الحرب العالمية الثانية قد رسمته عندما أعلنت الولايات المتحدة قوة عظمى منفردة، والقارة الأوروبية أرضا خرابا، لا تحتاج إلا إلى إعادة الأعمار.
العرب سلام السعدي