السياسة الغربية تجاه ظاهرة ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الشرق الأوسط متداخلة بشكل معقّد مع سياسات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تجاه الحرب الأهلية في سوريا، وتجاه إيران، والأزمة الطائفية في العراق. ونتيجة لذلك، لا يمكنهم الانفصال عن شؤون الشرق الأوسط، على الرغم من أنَّ الولايات المتحدة تسعى إلى إنشاء “محور آسيا” في حين يريد الاتحاد الاوروبي تعزيز حدوده الخارجية. على مستوى أكثر عالمية، تعكس أزمة في الشرق الأوسط أيضًا العلاقة المتغيّرة بين الغرب وروسيا، فضلًا عن إحجام الولايات المتحدة عن مواصلة التزامها الأمني تجاه الشرق الأوسط ودول شمال أفريقيا نظرًا لأنها تقلّل من الاعتماد على الطاقة الخارجية، وتسعى إلى قدر أكبر من المشاركة في آسيا. ومع ذلك، لا تزال أوروبا محاصرة في مشاكل المنطقة من خلال التواصل الجغرافي وازدياد الهجرة وأزمة اللاجئين. باختصار، التعددية القطبية تحل محل الهيمنة الأمريكية أحادية القطب طيلة السنوات الثلاثين الماضية.
بطبيعة الحال، من المستحيل أن نعرف على وجه اليقين ماذا ستعني الإدارة الرئاسية الجديدة في واشنطن في عام 2017 لخيارات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولكن من المرجح أن تبقى الخطوط الرئيسية للسياسة التي وضعتها إدارة أوباما في مكانها، حتى لو أصبح الخطاب أكثر عدوانية وأصبحت الولايات المتحدة أكثر حزمًا في المنطقة. بعبارة أخرى، أولويات انخراط الولايات المتحدة في آسيا ستظل الهدف الأساسي للإدارة الجديدة، على الرغم من الانحرافات الناجمة عن التطرف الإسلامي في العالم العربي وتناقض الولايات المتحدة إزاء الاتفاق النووي مع إيران وإعادة ظهور المحافظين الجدد في واشنطن.
الطموحات الغربية
من السهل معرفة أسباب هذه الرغبة في خفض مستوى مشاركة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. إنها تعكس خيبة أمل كبيرة من نتائج الماضي – الحروب في أفغانستان والعراق، فضلًا عن الآثار المترتبة على الحرب الأهلية في سوريا وتجدد خطر التطرف العدواني المتجسد في داعش. وتعكس أيضًا التحرر المحتمل للولايات المتحدة من الاعتماد على الطاقة المستوردة من خلال ثورة “التكسير الهيدروليكي”، على الرغم من الانخفاض الكارثي في أسعار النفط التي خططت له المملكة العربية السعودية على مدى الأشهر الثماني عشرة الماضية في محاولة لزيادة حصتها في السوق، بهدف القضاء على صناعة الطاقة الجديدة عن طريق تقويض أسعار النفط. ربما لا يزال الجمهور المحلي ينظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، ولكنَّ العزلة – على الأقل بقدر اهتمام الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – تبدو أكثر جاذبية من المشاركة.
تعكس رغبة الولايات المتحدة في فك الارتباط عن الشرق الأوسط خيبة أمل عميقة من إدارة أوباما إزاء رفض إسرائيل التفكير بجدية في حل المعضلة الفلسطينية نتيجة لاحتلالها للضفة الغربية وعزلها لقطاع غزة. بالطبع، هذا قد يتغيّر مع قدوم الإدارة الجديدة: هيلاري كلينتون على سبيل المثال، أعادت تأكيد دعمها لإسرائيل، أيًا كانت الظروف، على الرغم من أن دونالد ترامب كان أكثر حذرًا في هذه المسألة. ولكن ثمة حقيقة أساسية هنا وهي أنَّ الأمريكيين أصابهم السأم مما يعتبرونه التزامًا غير ناجح تجاه جانب واحد في الصراع، أيًا كان ما يد يعد به المشرّعون.
هذا الإحباط أكثر وضوحًا في أوروبا التي ألقت الأزمات في سوريا والعراق وليبيا بظلالها عليها، ولكن هناك إدراك على المستويين الرسمي والشعبي أنَّ المشكلة الأساسية في المنطقة لا تزال الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وأنَّ الفشل في حل هذا الصراع سوف يشعل كل التوترات والتهديدات الأخرى التي بدأت تظهر الآن. ولذلك، فإنَّ فرنسا ملتزمة بتنظيم مؤتمر كبير لإيجاد حل للصراع، كما اعترفت السويد بالدولة الفلسطينية ودعت البرلمانات في عدة بلدان أوروبية حكوماتهم إلى فعل الشيء نفسه. الاتحاد الأوروبي، بدوره، بدأ على استحياء فرض عقوبة عملية لرفض القارة مشروعية سياسة الاستيطان الإسرائيلية في الضفة الغربية.
ومع ذلك، وعلى عكس الولايات المتحدة، أوروبا لا يمكنها تجاهل الحقائق الصارخة للأزمات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. دول البحر الأبيض المتوسط في المنطقة هي، في الواقع، الحدود الخارجية لأوروبا، والتدفقات الهائلة من اللاجئين من منطقة الشرق الأوسط عبر تركيا والمهاجرين من جنوب الصحراء الأفريقية من خلال ليبيا تؤكد هذا الواقع كل يوم. هذه التدفقات تؤكّد حقيقة أخرى أيضًا؛ وهي أنَّ السياسات الخارجية الجماعية في أوروبا – الشراكة الأورو-متوسطية، وسياسة الجوار الأوروبية والاتحاد من أجل المتوسط – فشلت في توفير الأمن الذي سعت من أجله من خلال التنمية الاقتصادية الإقليمية على أسس الليبرالية الجديدة. كان هناك فشل مماثل أيضًا في دعم بلدان مثل تونس، التي تحاول التعافي من الآثار الاقتصادية المترتبة على اتساع دائرة العنف والفوضى في ليبيا أو، في الواقع، مساعدة ليبيا نفسها للتعافي من الحرب الاهلية هناك في عام 2011.
تجلى هذا الفشل بقوة في الأشهر الأخيرة بسبب ظهور الإرهاب في أوروبا النابع من منطقة الشرق الأوسط، كما يوضح لنا العنف في باريس وبروكسل في نوفمبر عام 2015 ومارس 2016. الأكثر قسوة أنَّ تلك الأحداث كشفت عن فشل الدول الأوروبية في دمج مجتمعات الأقليات الإثنية، وخاصة تلك القادمة من شمال أفريقيا. وهذه ليست المرة الأولى، نظرًا لأنَّ بريطانيا اكتشفت ذلك في عام 2005 من خلال مجتمعاتها من جنوب آسيا، وفي إسبانيا قبل عام فيما يتعلق بمشاركتها مع المغرب، كما شهدت فرنسا ذلك أثناء النصف الأخير من التسعينات، خلال الحرب الأهلية الجزائرية. لقد فرض المهاجرون والتطرف المشاركة الأوروبية في الشرق الأوسط، وخاصة في شمال أفريقيا، حتى لو بدت تلك المشاركة فاترة.
الحقائق الإقليمية
أوروبا، باختصار، لا تمتلك رفاهية فك الارتباط عن منطقة الشرق الأوسط، بسبب موقعها الجغرافي. ولكن، ويا للسخرية، لا تستطيع الولايات المتحدة فعل ذلك أيضًا لأسباب جيوسياسية عالمية. ثمة أربعة عوامل تحدّ من حريتها في العمل: الموروثات الرجعية المتعارضة للمشاركات الماضية مع إيران والمملكة العربية السعودية، جنبًا إلى جنب مع المخاوف بشأن أمن الطاقة في الخليج، والتزامات مماثلة تجاه إسرائيل، على الرغم من خيبة أمل الإدارة الحالية في حكومة نتنياهو، وإعادة ظهور روسيا كقوة إقليمية نتيجة لانخراطها في سوريا إلى جانب إيران، وربما الأشد وطأة من ذلك كله هو ازدهار التطرف غير الحكومي العنيف في نموذج داعش. وبالتالي، حتى يتم حل هذه القضايا، سيكون من المستحيل على أمريكا إنشاء “محور آسيا”.
رؤية إدارة أوباما لفك الارتباط تطلبت قرارًا بشأن انقطاع العلاقات الدبلوماسية مع إيران لمدة 30 عامًا، وبالتالي الاتفاق النووي الأخير. وهذا، بدوره، أغضب المملكة العربية السعودية، نظرًا لاعتقادها بأنَّ إيران كدولة شيعية متطرفة تهدد أمن العالم السُني من خلال “قوس شيعي من التطرف” مع العراق وسوريا وحزب الله في لبنان. ونظرًا لأنَّ المملكة العربية السعودية هي حليف رئيسي للولايات المتحدة لضمان أمن الطاقة في الخليج وتلعب دورًا أساسيًا في الحرب الأهلية في سوريا، كان على واشنطن استرضاء الرياض، ومن قبيل الصدفة، تركيا، كلاعب إقليمي رئيسي آخر – على الرغم من أنها قاومت التورط في الإطاحة بنظام الأسد في دمشق.
التناقضات الصارخة الكامنة في العلاقة الجدلية بين الحقائق في منطقة الشرق الأوسط والتردد الغربي للانخراط تتجلى في الكثير من السياسات الغربية تجاه الحرب الأهلية السورية. من ناحية، كان السياسيون والمعلقون الغربيون حازمين في إدانة نظام الأسد بسبب القسوة والعناد، مصرين على إزالة الرئيس السوري من منصبه. ولكن، من ناحية أخرى، فشلت الدول الغربية في العمل على تحقيق هذه الغايات وفشلت في توفير دعم حقيقي للمعارضة الفعلية للنظام. وبدلًا من ذلك، اعتمدت على حلفائها في الشرق الأوسط – تركيا والمملكة العربية السعودية – للقيام بهذه المهمة، على الرغم من العواقب الوخيمة. هذه هي نتيجة للتشرذم الحاد لقوات المعارضة السورية، في حين أنَّ الشركاء الإسلاميين المعتدلين في تركيا والمملكة العربية السعودية لديهم أهداف وتكتيكات مختلفة عن أهداف الجيش السوري الحر، التي سعت الدول الغربية لدعمه.
وبالإضافة إلى ذلك، الولايات المتحدة، بالرغم من تهديدها نظام الأسد بشأن الاستخدام المزعوم للأسلحة الكيميائية، اختارت أن تتعاون معه في القضاء على مخزونات الأسلحة التي يسيطر عليها. فسّرت دول الشرق الاوسط هذا باعتباره علامة على ضعف الولايات المتحدة، وهو انطباع لم يقابله قرار غربي لاحق بمواجهة داعش وجبهة النصرة بسبب التطرف والعدوان، سواء تجاه نظام الأسد، أو نحو الأصوات الأكثر اعتدالًا في المعارضة السورية. وكانت النتيجة أنَّ السياسة الغربية أصبحت مجرد كلمات جوفاء وكلام منمّق بقدر ما يتعلق الأمر بنظام الأسد؛ وهو وضع برز الآن بعد التدخل الروسي لدعم النظام ومواجهة داعش مؤخرًا.
ولكن على المدى القصير، كان التحدي المزدوج المتمثل في الإحياء الإقليمي الروسي وصعود داعش في العراق وسوريا له تأثير مباشر أكثر بكثير من تصوّرات ضعف السياسات الغربية. تنظيم داعش، مزيج من الانتقام البعثي في العراق لسقوطه في عام 2003 والتطرف العنيف الذي يسعى لتأسيس دولة إسلامية في بلاد الشام، هو في حد ذاته نتيجة لتدخل الولايات المتحدة في العراق بين عاميّ 2003 و2011، والفرص المقدمة للجهات الفاعلة غير الحكومية التي خلقتها الحرب الأهلية السورية. وهذا سمح بإحياء داعش بعد القضاء على الحركة الأصلية (تنظيم القاعدة في العراق) في عام 2010. وقد تحدى هذا التنظيم الدولة العراقية، وعمل على توسيع نطاق الحرب الأهلية السورية إلى المجالات السُنية العراقية، وبالتالي تهديد إيران.
انتشر التنظيم داخل سيناء وليبيا، ووضع نفسه كبديل وكعلامة تجارية فائقة للتطرف الديني العنيف لتنظيم القاعدة. أهدافه ذات شقين: أولًا، إعادة هيكلة النظام السياسي في المنطقة من خلال تدمير نظام الدولة الموروثة عن الاستعمار لصالح خلافة عالمية، وثانيًا، خلق تناقضات حادة بين المجتمعات المسلمة وغير المسلمة، حتى تضطر المجتمعات المسلمة اللجوء إليه للحماية – وبالتالي يتحول غضبه من حشود السوريين الفارين إلى أوروبا بدلًا من ذلك. في الواقع، القوة الدافعة للتنظيم هي الانتقام وليس الالتزام الديني، ومن هنا تأتي أهمية الأدوار في صفوفها من قِبل فلول البعث والجيش العراقي المهجّرين من سفينة القيادة في العراق من قِبل الولايات المتحدة في عام 2003. وهنا أيضًا تتجلى رغبة التنظيم في السيطرة على مدينة سرت، حيث بقايا الساخطين من نظام القذافي، الذي دمّره تدخل حلف شمال الأطلسي والحرب الأهلية في عام 2011.
كما كان التنظيم قادرًا على استغلال مشاعر الإحباط والإقصاء لدى الشباب المسلم في مجتمعات الأقليات في أوروبا والمجتمعات الشمالية لا سيما الأفريقية في فرنسا وبلجيكا، لأنّه يقدم بديلًا ثقافيًا وسياسيًا للشذوذ الذي أنتجته الحياة اليومية هناك. وقد تدفق هؤلاء الشباب المسلمين، جنبًا إلى جنب مع الشباب المحرومين في المنطقة عمومًا، للانضمام إلى التنظيم، وتعزيز قوته القتالية وقدرته الإدارية، حتى مع إثبات أنَّ مشروع دولة الخلافة غير قابل للاستمرار في نهاية المطاف. هذا هو الهدف الذي يفسّر رغبته في تهديد المجتمعات الأوروبية التي، جنبًا إلى جنب مع تهديدها دول المنطقة، أجبرت الولايات المتحدة وحلفائها على التراجع مرة أخرى، وبالتالي إجبار تجديد متردد لالتزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة.
ومع ذلك، تردد الولايات المتحدة للانخراط الكامل في استعادة النظام الإقليمي، جنبًا إلى جنب مع الخطاب الغربي الذي يدين نظام الأسد دون الالتزام بإزالته من منصبه، قد خلق فرصة لكل من إيران وروسيا لترسيخ أنفسهما كلاعبين بديلين لتحقيق هذه الغاية. كان من المتوقع أن تلعب إيران مثل هذا الدور، نظرًا لمشاركتها منذ فترة طويلة في كل من سوريا والعراق، وكذلك مع حزب الله. لكنَّ التدخل الروسي كان له آثار أوسع بكثير، لأنّه، على الرغم من النفور الغربي – وخاصة من الولايات المتحدة – إزاء قضايا الحكم المحلي في أوكرانيا وروسيا، أصبحت روسيا الآن شريكًا استراتيجيًا أساسيًا للغرب في ضمان الأمن الإقليمي.
النتائج
باختصار، التعددية القطبية تحل محل الأحادية القطبية باعتبارها الموضوع السائد في الجغرافيا السياسية العالمية، وليس لأن الولايات المتحدة تفتقر إلى الموارد المادية لتبقى القوة العظمى الوحيدة في العالم، ولكن لأنها تفتقر إلى الالتزام بذلك. إنها فرصة استغلتها روسيا التي لا تزال تنتقد محاولات الغرب وحلف شمال الأطلسي لجذب انتباه أوكرانيا قبل ثلاث سنوات، كما استغلتها إيران أيضًا، من خلال حماية نظام الأسد من الهزيمة. ولذلك، فقد تحدت أفعال روسيا النموذج الغربي للتدخل ورفض نظام الأسد، وقدمت نموذجًا بديلًا للأنظمة الاستبدادية المحاصرة بدلًا من ذلك. وبالتالي، فإنَّ تصرفات روسيا تتحدي أيضًا نموذج الاستقرار المهيمن الذي تجسده الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة.
الآن يجب على الدول الغربية أن تقرر ما إذا كانوا مستعدين لقبول الآثار المترتبة على مثل هذا التغيير، لأنَّ خلف روسيا توجد الصين والهند. إذا لم يكونوا مستعدين، يجب عليهم استعادة الهيمنة الأمنية تحت مظلة الولايات المتحدة. ولكن مع مرور الوقت هذا سيصبح غير مبرّر على نحو متزايد نظرًا لفاعلية الدول التي تقع خارج سيطرتها، ومع تحدي التعددية القطبية للهيمنة الغربية أحادية القطب. مثل هذه النتائج، رُغم ذلك، تحتاج إلى فهم وتعاطف مع الحقائق الاجتماعية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أكثر مما أظهرت القيادات السياسية في السنوات الأخيرة. وإذا كانت الدول الغربية تريد أن يختفي نظام الأسد، فإنها ينبغي أن تقنع روسيا بالإطاحة بالأسد نفسه من السلطة، ولكن يجب عليها قبول أنَّ النظام نفسه – في أي نموذج معدّل- سوف يستمر. وهذا هو ثمن إخفاقات الماضي.
أوراسيا ريفيو – إيوان24