ثمة مقولة شهيرة لكارل فون كلاوسفيتز، الاستراتيجي العسكري البروسي البارز في القرن التاسع عشر، أن «الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى». هذه المقولة تنطبق أكثر ما تنطبق الآن على التصعيد الهائل للعنف في حلب وأجزاء أخرى من سورية، منذ انهيار الهدنة الجزئية في 19 أيلول (سبتمبر) الماضي. فأبرز أسبابه سعي روسيا إلى مساعدة نظام الرئيس بشار الأسد على تحقيق مكاسب عسكرية راسخة وتحصينها بموقف سياسي متين، قبل أن تتحرّك الإدارة الأميركية القادمة لاستئناف جهود التسوية الديبلوماسية للأزمة السورية.
بيد أن الهدف الاستراتيجي للعنف المستمر بالنسبة إلى نظام الأسد لا يتصل فقط بتأمين أفضل شروط التسوية السياسية، بل يذهب أيضاً إلى انتزاع الموارد المالية والاقتصادية التي سيحتاج إليها ليتمكّن من الحفاظ على وجوده عند الانتقال من الحرب إلى السلام. فبات واضحاً أن الإدارة الأميركية قد خَلُصت إلى أنها لا تستطيع منع الأسد من البقاء في السلطة خلال مرحلة انتقالية تنتج من اتفاق سياسي. هذا علاوة على أن وزير الخارجية الأميركي جون كيري يعتقد أيضاً، وفق نشطاء سوريين ألتقوه في 22 أيلول الماضي، أن الأسد سيخوض انتخابات الرئاسة التي قد تجرى في نهاية المرحلة الانتقالية.
وهكذا، حين تستأنف الإدارة الأميركية الجديدة وروسيا حوارهما حول سورية، سينتقل مربط الفرس نحو رفع العقوبات المالية والاقتصادية عن نظام الأسد، أو تمكينه من الحصول على مصادر أخرى من الرساميل والسلع. وفي هذه الأثناء، سيواصل النظام استخدام وسائل العنف إلى حين توفير وسائل مادية بديلة لإعادة بناء مقومات سلطته السياسية وهيمنته الاجتماعية.
بيد أن معضلة نظام الأسد لا تكمن فقط في أنه غير مستعد لإبرام تسوية سياسية للنزاع، بل لأنه أيضاً غير قادر على ذلك. فقدرته على الإمساك بالسلطة، سواء خلال حقبة السلام قبل العام 2011، أو خلال النزاع المسلّح المستمر منذ ذلك الوقت، اعتمدت دائماً على الشبكات غير الرسمية التي يديرها في كل أجهزة السلطة والقوات المسلحة وأجهزة الأمن، وأيضاً في القطاعين العام والخاص في المجال الاقتصادي. وتستند قبضة النظام على هذه الشبكات بدورها إلى السيطرة على الأصول الاقتصادية الرئيسة، خصوصاً المداخل إلى القروض والعقود والأسواق، وعوامل الإنتاج كالطاقة والأرض.
لكن النظام خسر في خضم النزاع معظم هذه الموارد والوسائل. ولم يستطع الحفاظ على قبضته على الشبكات الموالية سوى من خلال تشجيعها على الانخراط بعمق في اقتصاد الحرب، وتطوير أنماط بديلة لتحصيل المداخيل ولإعادة إنتاج علاقات التواطؤ ما قبل الحرب بين أجهزة الأمن ومؤسسات الدولة وكوادر حزب البعث وأرباب السوق السوداء. وفي الوقت نفسه، عمل النظام على توجيه الائتمانات المالية والعقود التجارية الإيرانية نحو المحظوظين من أتباعه في قطاع الأعمال.
مع ذلك، كل هذا لن يكون كافياً لتعويم النظام حال انتهاء النزاع، ما لم يكن قادراً على وضع اليد على مصادر جديدة للرساميل وإعادة ربط الاقتصاد المحلي بالأسواق الخارجية المهمة. صحيح أن النظام يتوقع أن يخرج ظافراً، سواء من خلال تسوية سياسية بالتفاوض أو عبر نصر عسكري شامل، إلا أنه سيقبع على عرش بلد مدمّر اقتصادياً وأسواق ممزّقة. ولن تتوافر لديه سوى سبل ضئيلة لتوفير الرساميل اللازمة لإعادة البناء في مجالات الإسكان، والمرافق الاقتصادية، والبنى التحتية، ناهيك بإعادة اللاجئين إلى وطنهم واستيعاب النازحين داخلياً، وترميم قطاعات التعليم والصحة والخدمات العامة الأخرى، وإعادة بناء الروابط التجارية الخارجية.
قد يلجأ النظام إلى التوفير اقتصادياً، من خلال تأخير عودة زهاء 4،8 مليون لاجئ يُقدّر الآن أنهم خارج سورية، وعبر وضع عمليات إسكان وإعادة دمج نحو 6،5 مليون نازح داخل البلاد في آخر سلّم أولويات إنفاقه. لكن لن يكون في وسعه الاعتماد فقط على افتعال النقص في السلع الرئيسة والخدمات أو على قمع الأجهزة الأمنية، لاحتواء حنق ملايين المواطنين الذين دعموا المعارضة في السابق. سيتعيّن عليه أن يزيّن هذه «العصي» ببعض ألوان «الجَزَر»، لأن القمع أكثر كلفةً من الاحتواء حتى في الأنظمة السلطوية.
وما هو أهم من منظور النظام، أن توقعات قواعده الموالية للتعويضات والعائدات المادية، مقابل الثمن الباهظ الذي تكبّدته دفاعاً عنه، لن تكون أقل إلحاحاً. فالفشل في الاستجابة لها ستكون كلفته السياسية أعلى بكثير. ورغم أن النظام حفّز العديد من رجال الأعمال الذين بقوا داخل البلاد على دعمه مالياً، إلا أن إغراء رؤوس الأموال الهاربة والمبادرين الاقتصاديين والمهنيين من الطبقة الوسطى الحائزين على المهارات الضرورية للنهوض الاقتصادي، للعودة إلى البلاد، سيكون مهمة شاقة فعلاً.
لذلك، لا يزال النظام في حاجة إلى الحرب بوصفها وسيلته الأنجع لإرجاء دفع الأكلاف الكاملة لعملية إعادة البناء، واستيعاب المواطنين المُعادين، وتنفيس الضغوط المنبثقة من داخل صفوفه، عبر استمرار تعبئتهم لمواجهة الخطر الوجودي المفترض ودفعهم نحو توفير حاجاتهم المادية من خلال اقتصاد الحرب. لكن، وعلى عكس من يفترض أن النظام يوظّف العنف لمجرد الحفاظ على هيمنة بشار الأسد، فإن هدفه الاستراتيجي سيتغيّر في الواقع، إن لم يكن قد تغيّر بالفعل. وهذا الهدف، منطقياً، لا يمكن أن يكون سوى استعادة المداخل إلى رؤوس الأموال والأسواق الخارجية، والعمل على رفع العقوبات عن كاهله.
نظرياً، لا أمل تقريباً للنظام في تحقيق هذا الهدف بالطرق الديبلوماسية. فروسيا وإيران غير قادرتين على توفير الرساميل والأصول على النطاق الواسع المطلوب، لا بل هما امتنعتا عن القيام بذلك حتى في ذروة حاجة النظام إليها إبّان تصاعد وتائر الحرب. بيد أن الأطراف التي تحوز على أكبر المزايا والقدرات المالية والاقتصادية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول مجلس التعاون الخليجي وتركيا) ستتردد، إن لم تكن سترفض كلياً، رفع العقوبات الثنائية أو السماح للنظام بالدخول غير المقيّد إلى الأسواق العالمية. ولذا، سيواصل هذا الأخير انتهاج مسلك الحرب داخل سورية، مُستخدماً الحاجات الإنسانية وخطر نزوح موجات جديدة من اللاجئين إلى البلدان المجاورة وما وراءها، كأداة لحمل القوى الخارجية على الرضوخ إلى مطالبه.
الأرجح أن روسيا ستتواطأ مع مثل هذا السيناريو، ولو على مضض. فهي تريد إبرام صفقة سلام والوصول إلى خواتيم واضحة للنزاع، لكنها تفتقد إلى ما يكفي من النفوذ لحمل نظام الأسد على قبول حتى الشروط الملائمة له والمُتضمنة في الاقتراح الروسي للتسوية السياسية. وبالتالي، بدلاً من الانخراط في تنافس عقيم مع النظام، من المحتمل أكثر أن تتبنى روسيا مطالبه حول رفع العقوبات وتوفير المساعدة المالية، حين تستأنف المحادثات مع الإدارة الأميركية الجديدة. ولتحقيق هذا الهدف، ستجادل روسيا بأنه ليس في وسع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وباقي أطراف المجتمع الدولي أن تطالب بمرحلة انتقالية في سورية فيما هي تقوّض في الوقت نفسه فرص نجاحها، من خلال مواصلة فرض العقوبات والحظر التجاري. كما أنها قد تضغط على دول مجلس التعاون الخليجي بدعوى تعويض النظام نتيجة دعمها «الإرهابيين» الذين يزعم أنهم دمّروا سورية.
لن يراوح النظام السوري مكانه بانتظار حصول هذه النتائج، بل هو بدأ يستعد بالفعل لطرق أبواب مداخل أخرى إلى الرساميل. فقد أصدرت الحكومة السورية منذ أواخر 2015، ما وصفه المحلل الاقتصادي السوري جهاد يازجي بـ «سعر» من القوانين الجديدة لاجتذاب الاستثمارات، شملت إعفاء الشركات من متأخرات الضرائب، والقيمة المضافة (VAT) ومدفوعات الضمان الاجتماعي. كما تضمنت تأسيس هيئات جديدة لتطوير الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، ولتشجيع الإنتاج المحلي والتصدير، وفرض زيادات كبيرة على ضريبتي الدخل والعقارات، وتغيير قواعد التخطيط المديني للسماح باستبدال الإسكان غير الرسمي في المناطق المتمردة بمشاريع عقارية تجارية مرتفعة القيمة. هذا علاوة على تشريعات تتعلّق بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، هدفها منح رجال الأعمال حصة كبيرة في المشاريع التي تموّلها الحكومة وحقوق استخدام الأراضي المملوكة للدولة، وتأسيس «المجلس السوري للحديد والصلب» توقعاً لطفرة إعمار ضخمة.
مثل هذه التوجهات لا تستهدف المستثمرين السوريين وحدهم. فعلى رغم الحملات الكلامية العنيفة بين تركيا وسورية، إلا أن للأولى مصلحة اقتصادية كبيرة في طرق أبواب العودة إلى السوق السورية. وكذا الأمر بالنسبة إلى لبنان والأردن اللذين عانيا أكثر من غيرهما اقتصادياً، ويتحرقان الآن لإعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، وإنعاش قطاعات المصارف والأعمال فيهما من خلال عودة الانفتاح على سورية. هذا إضافة إلى أن إيران، وربما بلداناً أخرى كالصين، قد توسّع استثماراتها في سورية، من دون انتظار رفع العقوبات الغربية أو الخليجية، أو حتى قبل توقف النزاع المسلّح.
تواجه الحكومات الغربية والحليفة معضلة. فهي تسعى إلى وقف سيل الدم وتدفق اللاجئين السوريين، ولكن نفوذها محدود حيال نشاطات البلدان الأخرى والجهات الفاعلة الخاصة. فقد يجد الساعون إلى دعم الجبهة الديبلوماسية ضد نظام الأسد أنهم يواجهون معركة صعبة للإبقاء على العقوبات الاقتصادية والمالية. وبالفعل، بدأ مبعوثون غربيون ووكالات ومنظمات إغاثة دولية والبنك الدولي يركزون في شكل مضطرد على الحاجة إلى الاستعداد لإعادة البناء الاقتصادي في سورية.
يزيد صايغ_الحياة