لا توجد إرادة دولية في الوقت الحاضر لمعالجة المسألة السورية، وذلك بعد أن تمكّن كل طرف من السيطرة، كما كان متوقعاً على المنطقة التي كان قد خصّ نفسه بها، بناء على الاتفاقيات غير المعلنة، واستناداً إلى المؤشرات العيانية الملموسة التي تبرز ملامحها تباعاً واقعاً مرئياً على الأرض.
فالروس قد تمكنوا من السيطرة على القسم الغربي من سوريا، خاصة المنطقة الساحلية. والإيرانيون سيطروا بالاشتراك مع ميليشيات حزب الله على أجزاء كبيرة من دمشق وضواحيها، ومنطقة قلمون ومناطق أخرى في الشمال السوري. هذا مع الأخذ في الحسبان الهواجس الإسرائيلية في منطقة جبل الشيخ والجنوب السوري عموماً؛ وتفهّم احتياجات الأردن الأمنية في منطقة درعا.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ركزت على المنطقة الواقعة شرقي الفرات، ومنبج ضمناً، وصولاً إلى الحدود العراقية، مع الأخذ بعين الاعتبار المطالب والهواجس التركية التي تمحورت حول المنطقة الممتدة ما بين تل أبيض غرباً وراس العين شرقاً؛ هذا إلى جانب القبول بتواجد أمني – إداري للنظام في مراكز المدن، سواء في دير الزور أم في الحسكة وقامشلي. وكل ذلك بالتفاهم والاتفاق مع الروس بطبيعة الحال، بالإضافة إلى وجود للحرس الثوري الإيراني وميليشيات الحشد الشعبي العراقي في منطقة البوكمال والمناطق القريبة منها، المحاذية للحدود العراقية – السورية.
بينما تمكنت تركيا، بفعل تفاهماتها مع الروس والأمريكان في الوقت ذاته، من السيطرة على مناطق واسعة على امتداد حدودها مع سوريا، وهي تشمل المنطقة الممتدة بين رأس العين وتل أبيض التي أشرنا إليها، وتلك الممتدة بين جرابلس واعزاز مرورا بالراعي وضمناً الباب، إلى جانب منطقة عفرين، والقسم الشمالي من محافظة إدلب، بما فيها مدينة إدلب نفسها.
ورغم التصريحات المتعارضة التصعيدية أثناء الجولة الأخيرة من الأعمال القتالية في إدلب، تبين في النهاية أن الأمور لم تخرج بصورة عامة عن نطاق بعض الخلافات حول التفاصيل التي لم، ولن، تغير من صورة اللوحة العامة التي تشكلت بناء على الاتفاقات والتوافقات التي حصلت، ومنها الاتفاق العام بين الروس والأمريكان حول تنسيق المهام، وبيان ميادين وقواعد العمل، وتحديد آلية حل الخلافات. وكذلك تلك الاتفاقيات أو التوافقات، المعلنة منها والسرية، التي كانت بين أطرف اجتماعات استانا وسوتشي (روسيا، تركيا، إيران) وتوافقها على وضع حد لنفوذ الفصائل المسلحة التي خضعت كثيراً لعمليات التفكيك والتركيب، والقص واللصق، وذلك بناء على المهام المنوطة بها؛ وهي المهام التي لم تتجاوز نطاق الواجهة، والتحرك بناء على التعليمات والأوامر الآتية من جهة الداعم على صعيد التمويل والتذخير. وهناك من يفسر زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو الأخيرة إلى دمشق بأنها كانت رسالة روسية للنظام والإيرانيين في الوقت ذاته، بضرورة احترام التوافقات الروسية التركية الأخيرة الخاصة بمنطقة إدلب، نظراً لحساسية الموقف، وحيوية التفاهم مع الجانب التركي بالنسبة إلى الروس.
ومن المرجح أن تستمر مناطق النفوذ على وضعيتها الحالية إلى أجل غير مسمى، وذلك في انتظار الوصول إلى حل ما للموضوع السوري عبر التوافق بين القوى الدولية، لا سيما بين الأمريكان والروس على وجه التحديد. فالورقة السورية قد باتت بناء على المتغيرات التي كانت في المنطقة، جزءاً من الاستراتيجية الإقليمية للدولتين. كما أنها باتت ورقة ضغط يستخدمها كل طرف في مواجهة الآخر لتحصيل نقاط أو تنازلات في أمكنة أخرى من العالم.
وما يستشف من التحركات والتصريحات، هو وجود رغبة لدى اللاعبين الأساسيين في الحلبة السورية في تهدئة الأمور انتظاراً للاستحقاقات المقبلة.
فعلى الصعيد الأمريكي، هناك الانتخابات الرئاسية في نهاية العام الجاري؛ ومن الصعب منذ الآن التكهن بهوية الرئيس القادم، فضلاً عن معرفة خططه وبرامجه للمرحلة المقبلة. فحتى لو فاز ترامب في الانتخابات، ليس بالضرورة أن تكون سياساته امتداداً لما كانت عليه إبان فترة رئاسته الأولى. أما في حال فوز المرشح الديمقراطي، فعلى الأغلب ستكون هناك تحولات في المواقف والرؤى، ومن ثم في الاستراتيجيات. هذا مع ضرورة أخذ واقع انتشار كورونا (كوفيد-19) السريع حالياً في الولايات المتحدة في الحسبان، وانعكاسات ذلك على الاقتصاد والدور الأمريكي القيادي المستقبلي على مستوى العالم.
وروسياً، يسعى بوتين لتثبيت وضعه أكثر فأكثر، هذا رغم تمكنه من تعديل الدستور بما يتيح له الحكم لأطول فترة ممكنة؛ وبصورة أسهل مما كان يتوقعه هو شخصياً، أو بما توقعه الجميع. فقد جاء هذا التمديد في ظروف انشغال العالم بأسره بقضية كورونا، وتحولها إلى جائحة عالمية، وإقدام معظم الدول على اتخاذ إجراءات استثنائية، شملت إغلاق دول بكاملها؛ الأمر الذي ساعد بوتين في تمرير التعديلات من دون أي جهد أو أية احتجاجات، أو حتى انتقادات مؤثرة على المستويين الداخلي والخارجي.
وقد جاءت أزمة كورونا بصورة عامة لتحجب الأضواء عن الموضوع السوري، والوضع في إدلب على وجه التحديد. وقد استغلت الدول المعنية بالملف السوري هذه الظروف، واستطاعت ترتيب الأمور في ما بينها بصورة تراعي حساباتها ومصالحها.
والجدير بالذكر هنا هو أن الموقف التركي كان قد تغير بصورة لافتة عموماً بعد زيارة اردوغان إلى موسكو؛ وتوصله إلى توافقات مع بوتين حول ترتيب الأمور في منطقة إدلب، والتفاهم حول العقد المستعصية. ولكن أزمة كورونا قد أسهمت من جهتها في إخراج الموضوع برمته من دائرة الضوء والمراقبة والمتابعة، الأمر الذي سيساعد من دون شك في عملية إنضاج الطبخة على نار هادئة كما يقال، بعيداً عن الإعلام والرأي العام. وما التصريح الأخير الذي أدلى به المبعوث الدولي الخاص بسوريا غير بيدرسون حول ضرورة وأهمية وقف إطلاق النار، وتركيز كل الجهود لمواجهة كورونا، سوى مؤشر يدل على وجود رغبة دولية، أمريكية روسية في المقام الأول في تثبيت حدود مناطق النفوذ، بعد أن تمكنت مختلف الأطراف من الوصول إلى توافقات تضمن دورها في المعادلات المستحدثة المرتقبة التي ستعاد بموجبها هيكلة المنطقة من جديد، لتتناسب المجريات والوقائع مع توجهات المنافسات بين القوتين الأكبر في المقام الأول، مع الأخذ بعين الاعتبار أدوار الدول الإقليمية الأساسية.
ومن الواضح أن موضوع تقسيم سوريا غير مطروح في الوقت الحالي، وإنما هناك تركيز مستمر من جانب مختلف الأطراف على ضرورة احترام وحدة سوريا. إلا أن هذه الوحدة إذا ما استمرت فعلاً، ستكون هشة، فضفاضة، شكلية ضمن الظروف الحالية.
ومن المتوقع أن تستمر الوضعية الراهنة لفترة لا بأس بها من الوقت، قد تكون كافية لتهيئة الناس للقبول بأوضاع جديدة، خاصة إذا ما ترافقت جهود التهيئة تلك بعملية خلق الحوافز الاقتصادية التي تمكن الناس من الارتباط المعيشي، وحتى النفسي، بالدول التي تتقاسم سوريا في واقع الأمر راهناً.
وما يعزز هذا الاحتمال هو خروج السوريين من المعادلات الخاصة بتحديد مستقبل بلادهم بصورة شبه كاملة. وعجز النخب السورية سواء السياسية منها أم الفكرية أم الاقتصادية والمجتمعية بصورة عامة، عن تقريب وجهات النظر من خلال الإلحاف على القواسم المشتركة، والتوافق على آلية مقبولة للبحث عن الحلول بالنسبة إلى النقاط الخلافية، وتدوير الزوايا. فهذه النخب قد فقدت في ظل واقع سيطرة القوى الدولية والإقليمية على مفاصل الدولة السورية على مختلف المستويات وفي جميع الميادين أي دور بنّاء كان يمكنها القيام به في وقت ما.
ولكن مع ذلك يبقى الأمل معقوداً على الآلاف المؤلفة، إن لم نقل الملايين من الشباب السوري الذين اكتسبوا العلم والتقنية والخبرة واللغات الأجنبية على مدى نحو تسعة أعوام من عمر الثورة، رغم المحنة القاسية. وهناك اليوم الآلاف من الشباب السوري الذين يتابعون دراساتهم الجامعية في أرقى الجامعات العالمية وفي مختلف الاختصاصات، وسيكون هؤلاء قوة إبداعية مؤثرة، سيزداد ثقلها ودورها في المستقبل.
ومن جهة أخرى، نرى أن امتعاض السوريين من المشاريع العابرة للحدود بأسمائها المتعددة يفتح الآفاق مستقبلاً أمام التفاهم والاتفاق على مشروع وطني يكون بالجميع وللجميع، على أساس احترام الخصوصيات والحقوق، ومن دون أي تمييز، مع الأخذ بعين الاعتبار واقع كل ما حدث حتى الآن في مختلف المناطق السورية.
نقلا عن القدس العربي